رد الاعتبار لمبدأ تدخل الدولة في الاقتصاد

TT

في إحدى مسرحيات محمد الماغوط الساخرة، يأكل الحمار دستور القرية في غفلة وجهائها وأعيانها. التورية المقصودة تهدف إلى توبيخ النظام على انتهاكه الدساتير، وتعديلها وتفصيلها على مقاسه. في الأزمة المالية الراهنة، يمكن سحب التورية الهازلة على الحمار «الديمقراطي» الذي التهم خطة إدارة بوش لتعويم المصارف المفلسة.

في موسم انتخابي، يتملق خلاله المتنافسون ملايين الناخبين، يكتشف الحزب الديمقراطي (رمزه الحمار) ان خطة التعويم تفرض تمويل القطاع المصرفي بـ 700 مليار دولار، يقدمها المساكين دافعو الضرائب، بواقع 2300 دولار لكل أميركي.

صحوة الضمير الانتخابية ما لبثت أن امتدت الى الحزب الجمهوري (رمزه الفيل). تمرد الحزب على إدارة بوش، البطة العرجاء في أواخر أيامها، وفي ظروف انخفاض شعبيتها. انضمت الفيلة إلى الحمير ـ المعذرة للتعبير ـ للمطالبة بأن يكون للخطة مضمون اجتماعي، لحماية دافعي الضرائب، ولانقاذ الملايين من أصحاب البيوت المهددين بالطرد لعجزهم عن الوفاء بدفع الأقساط.

كان ظن إدارة بوش ان تمرير الخطة في مجلس الكونغرس (النواب والشيوخ) أمر سهل، بمجرد اضفاء طابع الاستعجال عليها، تماما كما تم تمرير خطة غزو العراق. تركة اللوم والتوبيخ على هنري بولسن وزير الخزانة الذي وضع الخطة مع بن برناركه مدير مجلس الاحتياط الاتحادي (المصرف المركزي). الرجلان يكملان بعضهما بعضا. الأول سمسار خبير قادم من وول ستريت. الآخر منظِّر ومفكر قادم من الجامعة.

بولسن الذي بدا قوميسار الإنقاذ ما لبث أن أصبح موضع الشبهة لدى أعضاء الكونغرس والصحافة. فقد طالب بصلاحيات تعفيه من المساءلة عن كيفية انفاق المبلغ الخيالي الذي يعادل ما أنفقته إدارة بوش إلى الآن في حرب العراق. أكثر من ذلك، فالرجلان لم يُضَمِّنا الصفقة أية اشارة الى تعويم أصحاب المنازل الذين جرتهم المصارف العقارية المفلسة إلى المحاكم مطالبة بديونها غير المدفوعة التي تسببت بإفلاسها. الأرجح أن بولسن راعى مستقبله بعد نهاية ولاية رئيسه بوش. فقد يعود إلى وول ستريت حيث كان مديرا ناجحا لمؤسسة سمسرة مالية ضخمة.

باختصار، الصفقة تقضي بشراء الدولة أصول الرهون العقارية من المصارف المفلسة لتأمين السيولة النقدية لها. اللامساواة الرأسمالية تستدعي تعويم المصرف المفلس، وسوق المواطن المفلس إلى القضاء. إذا عادت الحركة إلى السوق، ارتفعت قيمة الأصول. ربحت الدولة وليس دافع الضرائب الذي موَّل الصفقة.

من هنا، فقد طالب أعضاء الكونغرس الدولة بإعفاء دافع الضرائب من عبء التمويل. قالوا ان الدولة تستطيع ان تصدر سندات تأمين مضمونة يشتريها كبار المستثمرين. يغدو هؤلاء هم الممولون، من دون أن تدفع الدولة أو المواطن دولارا واحدا.

المال نصف زينة الحياة الدنيا. من يضمن أن يقبل المستثمرون الأجانب على شراء سندات حكومية جديدة؟ أحرق العرب والآسيويون مليارات الدولارات في تمويل المصارف المفلسة، لا سيما ان أميركا تعيش على ديونها الخارجية التي بلغت رقما فلكيا (13 تريليون دولار). عجز ميزانها التجاري يبلغ شهريا 60 مليار دولار. السندات تثبت نظريا وقانونيا حق الشاري في السحب من رصيد دولة كبرى... مفلسة بسبب مغامراتها الخارجية، وتجاوزات مدراء مصارف فقدوا الرادع الأخلاقي، نتيجة لغياب الرقابة الرسمية.

على أية حال، أية خطة تعويم تؤكد عودة الدولة الرأسمالية إلى التدخل في السوق. انتهى عصر السوق الحرة التي قيل انها تصلح وتضبط عملها وسلوكها تلقائيا من ذاتها، من دون تدخل ومراقبة الدولة لها.

بعد أكثر من قرن، يعود ماركس لتعويم مَنْ؟.. لإنقاذ وتهذيب الرأسمالية المتوحشة، ولرد الاعتبار لمبدأ تدخل الدولة في الاقتصاد، للحد من المنافسة والاحتكار، ولضبط فوضى الحرية المصرفية التي تسمح لموظف صغير في مصرف كبير (سوسيتيه جنرال الفرنسي) بالمضاربة الخاسرة (خمسة مليارات يورو) من دون أن يدري رؤساؤه بما يفعل!

في كتاب قيِّم صدر حديثا، يقول المؤلف البروفسور جيمس غالبريث ان الاقتصاد الأميركي منذ ثمانينات ريغان وثاتشر اعتمد ثلاثة مبادئ: تفكيك الرقابة الحكومية. تخفيض الضرائب. النظام المالي (مونيتاريسم). وهكذا، لمنح المصارف ومدرائها والمستثمرين فيها مطلق الحرية في تحقيق الربح السهل، كان لا بد من تهميش دور الدولة. كان ريغان يقول (اخفى خرفه المبكر منذ انتخابه رئيسا) ان «الدولة ليست جوابا لمشاكلنا. الدولة هي المشكلة».

كنت قد نوَّهت بقيمة البروفسور جون كنيث غالبريث (والد جيمس) أبي المدرسة الاقتصادية الليبرالية، مدرسة اقتصاد الانتاج الذي يعطي المال قيمته الحقيقية، وليست قيمته الوهمية المفتعلة التي تعطيها مضاربات السوق المالية (البورصة).

وبعد، ما هي العبر والدروس التي يستخلصها الاقتصاد العربي من الازمة الطاحنة التي يعانيها الاقتصاد الرأسمالي؟ ليس قصدي التضييق على حرية القطاع الخاص بعد سني الاقتصاد الماركسي الذي وَسَمَ نشاطات اقتصاد دول مثل مصر وسورية والعراق والجزائر.

أعترف بأن الدولة تاجر مفلس ومدير سيِّئ للمشروع الاقتصادي. لكنْ للدولة دورٌ في الاقتصاد من خلال المتابعة والرقابة، منعا للتجاوزات، وحفظا لحقوق العمال والعاملين في القطاع الخاص، وضمانا لجباية أمينة وحقيقية للضرائب والرسوم.

كان لازدهار القطاع الخاص وجوه سلبية: صعود النفوذ السياسي والاجتماعي لرجال البزنس. شراكة مريبة بينهم وبين مسؤولين كبار لتحقيق الربح السهل، وللهيمنة على قطاعات اقتصادية معينة. غياب المساءلة أطلق العنان للانفلات من أية ضوابط اجتماعية واخلاقية (قضية سوزان تميم).

قيمة المال ليست في تحصيله أو كنزه، انما بكيفية انفاقه. لعل الاقتصاد المختلّط (زواج اقتصاد الدولة واقتصاد القطاع الخاص) هو الحل الأمثل لضبط قطاع البزنس والمال، وتوجيهه نحو الاستثمار في الانتاج، وتشييد البُنى الخدماتية الاساسية في المجتمع.

الواقع ان الحرية الاقتصادية ليست مطلقة. الدولة الرأسمالية تدير او تملك أو تساهم في قطاعات أساسية، كالطاقة والمواصلات. بوتين استرد من الطغمة الأوليغارشية قطاع النفط. السعودية تمنح القطاع الخاص حرية كبيرة في الاستثمار حتى في القطاع العام. لكن لا تسمح لرجال البزنس بممارسة نفوذ سياسي يقدمهم كشركاء ووجهاء للنظام، احراجا له أمام مجتمعه ومواطنيه.