الوطن أم المذهب؟

TT

يلاحظ المتابع المهتمُّ بالأحداث التي جرت في الأيَّام القليلة الماضية أنَّ العمليَّات التي أودت بحياة الكثير من الأبرياء، مسلمين وغير مسلمين، نفَّذها مسلمون يظنُّون أنَّ ذلكم هو أقصر الطرق إلى الجنَّة ونعيمها.

لست من المتعمِّقين بالشريعة الإسلاميَّة، إلاَّ أنَّني أعلم علم اليقين أنَّ القرآن الكريم قد حرَّم قتل النفس البريئة، وتوعَّد القاتلين بجهنم وبئس المصير: «مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيْعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيْعاً». هذا النص السماوي، لا يحتاج تفسيره إلى فقيه بعمامة بيضاء أو سوداء، لكنَّه يحتاج إلى عقل متدبِّر في معانيه، وفكر متجرِّد من الهوى، ونفس غير أمَّارة بالسوء. كما أنَّ الأديان في جوهرها دعوة للمحبَّة والسلام والإخاء، بغضِّ النظر عن عقيدة كلِّ إنسان ومشاعره وأحاسيسه. والدين السماوي الذي أنزل كتابه على نبيَّه، لم يأت بمذاهب، ولم يدعُ لها، ولم يجعل مع أنبيائه شركاء لهم في الأرض ليعينوهم على نشر مفهوم مذاهبهم لهذا الدين. لا أشكُّ أبدا أنَّ الله جلَّ شأنه بعث الأنبياء ليكونوا هدى للناس. ولم يبعثهم لخلق الفتن والدعوة لقتل النفس الحرام. كما أنَّ النصوص السماويَّة لم تميِّز بين دين الإنسان ولونه وعرقه، واكتفت بوصفه «نفساً» دون زيادة أو نقصان.

في الحرب العراقيَّة ـ الإيرانيَّة، شاهدنا زجَّ البشر جنودا في أتونها، يعصِّبون رؤوسهم بأشرطة كُتب عليها: «لا إله إلاَّ الله»، يتدافعون لقتل إخوانهم المسلمين على الجبهة الأخرى، وهم يحملون وعودا ومفاتيح لدخول الجنَّة! وقبلها، توالى المشهد، وتكرَّر في حرب أفغانستان لطرد الجيش السوفيتي منها! ولا يغيب عن البال الوصف الذي أطلقه زبيجنيو بريزنسكي على المقاتلين هناك آنذاك: «مقاتلون من أجلِّ الحرِّيَّة» ثمَّ انتهى الأمر إلى أن أصبح هؤلاء «المحرِّرون» مطاردين بعد انتهاء المهمَّة التي أوكلت إليهم، وكانوا بها مقتنعين.

التاريخ فصول متكرِّرة، يتداول الممثِّلون مسرحه ليلعبوا أدوارا سبقهم إليها غيرهم الكثيرون. لكن العرب ما يزالون يستمتعون بقراءة النصِّ القديم، وهم كما وصفهم القرآن الكريم في (سورة يس) «لا يفقهون ولا يسمعون ولا ينصتون».

عمليَّات القتل الجماعي التي شهدها اليمن في الآونة الأخيرة نتاج تربية دينيَّة شاذَّة، جعلت الوطن غير ذي قيمة لدى هؤلاء الانتحاريِّين، وقدَّمت الفتوى على النص، واعتسفت الأحاديث النبويَّة الصحيحة، وجعلت الدمار شعارا لما ادَّعت أنَّها «الغزوات». وصار من المألوف أن نسمع تبريرات وفتاوى وتصريحات تحيل عملا بشعا مثل هذا إلى «فرض عينٍ»، على مَن يختارهم هؤلاء «العلماء» من الانتحاريِّين، و«فرض كفاية» لكي يكفي أبناءهم شرَّ «القتال»، تدعمه تفسيرات أهوائيَّة، ونصوص عشوائيَّة منتقاة من «أحاديث» غير مسندة وكتب لم يُتَّفق عليها، ولم ترد في كتاب الله الذي لم يُفرَّط فيه من شيء!

كيف يمكن لنفس سويَّة أن تنام قريرة العين حين تدفع شابّا لم تسعفه الحياة بعد لتدبُّر شؤونها بعيدا عن حشو الكلام ولغوه ليموت شرَّ ميتة ما أنزل الله بها من سلطان! كيف تترك الحكومات أمر هؤلاء الشباب إلى فقهاء لا يتجاوز همُّهم مسائل الحيض والنفاس، وتمنحهم الفرص، وتمدَّهم بالعون وتُعلي شأنهم بمناصب تستمدُّ شرعيَّتهم من عدم شرعيَّتها بعيدا عن حكم الله وشرعه، ليعبثوا بجماجم الناشئة، كي تتفادى تلك الحكومات توجيه أصابع الاتِّهام لتقصيرها في أداء واجباتها الدستوريَّة ومهامها الوطنيَّة والأخلاقيَّة! لم يكتف «فقهاؤنا» بتلويث عقول الناشئة في محيطنا الجغرافي، بل راحوا يعمهون في غيِّهم، وينشرون «قذوراتهم» في شتَّى أنحاء المعمورة، ويقولون إنَّها «تعاليم الدين الحنيف» والعياذ بالله، الذي أرسل الله نبيَّه رحمة وهدًّى للعالمين!

يكفي أن ننظر إلى مناهج التعليم في المدارس العربيَّة لندرك أنَّ الأمر لا يتعدَّى موازنات ضخمَّة يُنفق جلُّها على مرتَّبات المدرِّسين غير المؤهَّلين أصلا. ونتساءل: «هل مستوى التعليم اليوم أفضل منه قبل سنوات عشر؟» لا شكَّ أنَّ عدد المدارس قد تضاعف، وهذا أمر جميل، ولكن التدريس قد انخفض مستواه إلى درجة غير مسبوقة، وتُرك أمره إلى «علماء» أصبحت مذاهبهم أجدى من الدين وأجدر من الانتماء إلى الوطن. أمن عجبٍ أن يكون المشرفون على أمر التعليم، كالمشرفين على أمر الدروس الدينيَّة، لا رؤية لديهم لما يجب أن يكون عليه الطفل العربي في المستقبل! ولا عجب أيضا أن أصبحت الصحَّة أردأ، والتعليم أسوأ، والاقتصاد استهلاكيّا لا يرتكز على أسسٍ ولا ينظِّمه قانون! وكذا المناخ السياسيٌّ، لا أفق له لترسيخ دستور أو قانون، أو تنظيم علاقات اجتماعيَّة متهتِّكة، وبنية تحتيَّة متهالكة! بعد هذا، نتساءل في حيرة وذهول وضياع: ما هو مستقبل هذه الأمَّة؟

اليوم في الهند، اختار طلاَّب تلك المدارس المذهبيَّة طريق العنف وسيلة لتحقيق ما يعتقدونه حقّا، وطريقا إلى الجنَّة. اختار هؤلاء أكثر المناطق ازدحاما ليضعوا فيها أدوات الموت للكثيرين من بسطاء ذلك البلد المسالم المحبِّ لكلِّ الأديان. المسلمون في الهند، أكبر كتلة سكانيَّة مسلمة في العالم، يبلغ تعدادهم 250 مليونا، أي حوالي عشرين من المائة من سكَّانها، منهم الوزير ونائب الرئيس والنوَّاب وأعضاء مجلس الشيوخ، ورجال أعمال، وكان منهم زين العابدين عبد الكلام، رئيس الجمهوريَّة السابق، يعيشون بين ما يقرب من تسعمائة مليون هندي هندوسي وسيخي. مسلمو الهند لهم جامعاتهم الخاصَّة، ومساجدهم مصانة ومحميَّة. لهم من الحقوق وعليهم من الواحبات ما يتساوون فيه مع أبناء وطنهم من الديانات الأخرى. هنا يبرز السؤال الأهم الذي يحتاج من فقهائنا إلى إجابة بعيدة عن التعقيد والسفسطة واللغو، هل للمسلم امتيازات تجيز له التنصُّل من التزاماته الوطنيَّة؟ هل انتماء المسلم لمذهبه، وليس بالضرورة إلى دينه أولويَّة على انتمائه إلى وطنه؟ وبكلِّ تجرُّد وبساطة قد تصل حدَّ السذاجة، وبعيدا عن المعصية، لا سمح الله، أتساءل: هل الأفضليَّة للمرجعيَّة الدينيَّة أم للدستور؟ أللقانون أم للفتوى؟ أللوطن أم للمركز الديني؟

وكيف لا يُعتصر الأفئدة ونحن نرى أوطانا في العالم العربي، صار بعض مواطنيها ينتظرون رأي مرجعيَّاتهم الدينيَّة، قبل أن يقرأوا نصوص دستور بلادهم. وتراهم أيضا لا يقيمون للقانون وزنا أمام فتوى شيخ ذي عمامة سوداء أو بيضاء! ويأتي وطنهم في مقام أدنى من مقام مركزهم الديني. إذا كيف يمكن أن نحمي الأوطان وندافع عنها!

إنَّنا نسير على غير هدى ولا رؤية واضحة، في طريق مملوء بعقبات تحول دون الاندماج الوطني الذي يبيح بلا مبالاة التمذهب في ظلِّ مرجعيَّات «وطنيَّة» تتلقَّى تعاليمها من خارج الحدود. إنَّنا نعيش في ضباب ماضٍ لم نتَّفق بعد على قواسمه المشتركة، ونعبث بحاضر لم نرسِ بعد دعائمه، ونغفل عن مستقبلٍ لم نعٍ بعد أبعاده. نعيش في وطن نتَّفق على جغرافيَّته، وليس بالضرورة دائما، ولكنَّنا ما نزال مختصمين على ماهيته وكينونته وتاريخه. في رأيي، أنَّ الحرِّيَّة الفكريَّة والتعليم الذي يقود إلى تفكير حرٍّ، والشعور بأنَّ هدف الأديان نشرُ المحبَّة والتسامح، وإطلاق العنان للجدل الثقافي، هي كلُّها مقوِّمات تماسك الأوطان. وتلك لم تتمكَّن بعد من نفوسنا، أو قل، من نفوس الناشئة التي سوف تكون مستقبل هذه الأمَّة.

ما فتئت دعوات مخلصة تنطلق بين الفينة والأخرى تدعو «الجامعة العربيَّة»، وتتمنَّى عليها أن تضع سقفا لطموحاتها التي، لم يتحقَّق منها شيء يُذكر، وتطالب بأنَّ تخصِّص «قمَّة» لمناقشة التعليم في العالم العربي الذي ما يزال راكدا آسنا في كتبٍ مدرسيَّة تجاوزها الزمن، وعفت عليها الرتابة والوهن. لكن انشغال ولاة أمرها بأمور غير قادرين على فكِّ طلاسمها، وخلافاتهم في حمأة السياسة العربيَّة، وعجزهم عن مجاراة السياسة العالميَّة، أنساهم التعليم والصحَّة والاقتصاد والحالة الاجتماعيَّة. وأنساهم الإنسان العربيَّ، فريسة القضاء والقدر، وضحيَّة كرسيِّ الحكم واستمراره، ولكن لم ينسهم أن يصدروا «اتِّفاقا إعلاميّا» يسهم في منح «فقهاء» الحيض والنفاس المزيد من السطوة والتأثير!

العالم العربي في مأزق. لن ينجو من شباكه أحد، والجميع يُدرك المخرج إلى سبل النجاة، ولكنهم صامتون عن الحقِّ.

آفة الحكم، رجل سياسة يحكم بلا سؤال، وآفة الدين رجل مذهب يقود الناس إلى ضلال.

فمن يقرع الأجراس؟

*سياسي يمني