هل هناك رابحون؟

TT

في الأسواق المالية هناك دائما رابحون وخاسرون، حتى في أوقات الأزمات والاضطرابات، وهذا ينطبق على الأزمة الحالية التي لا يبدو أن هناك مثيلا لها منذ الكساد الكبير في العشرينيات من القرن الماضي قبل الحرب العالمية الثانية. فالمؤسسات المالية التي انهارت هناك من ضارب على سقوطها وحقق أرباحا من وراء وهم بعض الصناديق المالية والمستثمرون التي ضاعفت عملياتهم من الضغوط على المؤسسات المالية في وول ستريت وبعض العواصم الأوروبية.

هذا على صعيد السوق وعملياتها، لكن على صعيد الاقتصاد ككل، والمجتمع فان كشف الحساب يميل لصالح الخسارة، لأنه كما حدث في الولايات المتحدة وبريطانيا فان مشاريع الإنقاذ تمتد إلى أموال دافعي الضرائب من أجل إنقاذ المؤسسات المحملة بجبل من الديون السيئة، ولم يكن هناك خيار آخر لأن تداعيات ترك حالة عدم الثقة والسماح بانهيار هذه المؤسسات بدون إنقاذها كانت ستكون كارثية ليس على الاقتصاديات المحلية في الدول المعنية ولكن على الاقتصاد العالمي ككل بحكم الترابط الوثيق حاليا بين أسواقه ومؤسساته المالية، وهو ما عبر عنه الرئيس الأميركي جورج بوش في عطلة نهاية الاسبوع وهو يستحث الكونغرس على اقرار خطة الإنقاذ المقترحة بقوله إنه يعرف ان هناك غضبا شعبيا من استخدام الأموال العامة لكن لا يمكن ترك مؤسسات وول ستريت تنهار حتى لو اخطأت، وهو كان يشير بذلك الى الممارسات الخاطئة لادارات المؤسسات المتعثرة التي اخذت مخاطر اكبر مما تتحلمه ميزانياتها أو أصولها.

ومع تبلور خطة الانقاذ الأميركية وما قامت به بريطانيا من انقاذ لمؤسسة تمويل عقاري جديدة عن طريق تأميم جزء من نشاطها وبيع الجزء الآخر، ومد حبل إنقاذ مالي الى مصرف أوروبي كبير في بروكسل، اظهرت الحكومات انها لن تترك المؤسسات تنهار، وهي خطوات من المفترض ان تعيد الى الاسواق المالية تدريجيا الثقة، لكن يبقى السؤال وماذا بعد عن احوال الاقتصاديات، فمد حبال الإنقاذ المالية لا يعني نهاية الأزمة والتباطؤ أو الركود الاقتصادي المتوقع ان يستمر لفترة ما زالت مدتها موضع جدل. عام عامين؟ لا أحد يعرف على وجه اليقين الآن.

وهو سؤال يهم العالم كله لأن الركود في اقتصاديات صناعية عملاقة يمتد تأثيره بشكل أو آخر إلى بقية منطق العالم ويؤثر على معدلات النمو العالمية وحركة التجارة الدولية. فميزان الربح والخسارة في الازمة الحالية على صعيد الدول ومناطق العالم لا يعطي مؤشرات على ان هناك رابحين، فالكل سيخسر بشكل او آخر بحكم التشابك الاقتصادي، فحتى الصين التي تتمتع باحتياطات مالية ضخمة تتجاوز التريليون دولار متورطة في الأزمة بحكم كميات الأموال الهائلة التي تستثمرها في الولايات المتحدة، أو بحكم الاعتماد الكبير لاقتصادها على التصدير للسوق الأميركية والأسواق الغربية الأخرى، وبالطبع فأن من شأن الركود تقليل الاستهلاك وبالتالي الإستيراد.

لكن هذا لا ينكر أيضا أن تأثير الأزمة المالية العالمية، بما تعنيه من نقص السيولة المتاحة للإقراض لتمويل مشاريع وأنشطة اقتصادية رغم عالمية تأثيرها فأن التأثير سيكون متفاوتا فهناك اقتصاديات ومناطق لن تشعر بسخونتها الشديدة نتيجة تركيبة اقتصادها، وخاصة الدول التي تتمتع بثروات من مواد خام طبيعية شهدت أسعارها ارتفاعا كبيرا في قيمتها في السنة الأخيرة التي شهدت زيادة مؤثرة لثقل هذه الدول في الاقتصاد العالمي، وهذا لا يعني الدول المنتجة للنفط وحدها لكن أيضا الدول ذات الإمكانيات الزراعية الكبيرة، أو الدول التي يوجد لديها مواد خام أخرى حيوية للدورة الاقتصادية العالمية.

على المدى الطويل فان الاقتصاد العالمي سيربح من تصحيح الممارسات والأساليب في الأسواق المالية والتي قادت إلى هذا الوضع، فالأزمة ليست نتيجة يوم أو سنة أو سنتين ولكن أدوات وأخطاء تراكمت على مدار سنوات وساعد على اخفائها حالة النشاط التي كانت موجودة في هذه الأسواق. وهي بالمناسبة لن تكون الأزمة الأخيرة فطبيعة الاقتصاد والأسواق هو أنه يمر بدورات انتعاش وركود، تتفاوت في شدتها من فترة إلى أخرى.