العراق: القُرى المحذوفة بالقانون!

TT

لدى أهل الديانات والأقوام العراقية، التي توصف بالأقليات، لا يعني إلغاء المادة الخمسين من قانون انتخابات المحافظات، سوى حذفها من الخارطة السياسية، وهي الخاصة بالتمثيل النسبي لأبناء تلك الأقليات في مجالس حكم المحافظات المختلطة. وقد جاء الإلغاء بطريقة أوحت إلى المصوتين على خيار الإلغاء، وهو طلب رئيس الجمعية الوطنية التصويت على المفردة. قالها: التصويت على إلغاء المادة كذا! وبعذر غير مبرر، وهو عدم وجود إحصاءات سكانية، مع أن إحصاءات الكنائس، ورئاسات تلك الملل والأقوام موجودة، سواء كان منها الكامل أو التقريبي.

ليس صحيحاً بحق المواطنة والقِدم بالمكان، ويعد تعسفاً بحق فئات من الأصلاء في أرض الرافدين، أن يشار إليهم بمفهوم الأقليات أو الجوالي مثلما كان الحال في العهد العباسي أو الملّي مثلما كان الحال عليه في العهد العثماني، ومنها ما لم تعترف بوجودها قوانين الدولة الأخيرة، مثل الأيزيديين والصابئة المندائيين، مع الحيف المذهبي المعروف. أما في العهد الملكي فصار الاعتراف بالملل الدينية كافة، وتدريس صلاتهم في المدارس، التي يوجد فيها أبناؤهم بكثرة ملحوظة. فحسب مدير التعليم العام ساطع الحصري ضمت مدارس العراق العام الدراسي 1921 – 1922: 4288 مسيحياً، و571 يهودياً، و165 صابئياً مندائياً، وأربعة أيزيديين فقط. ومعلوم أن الطائفة الأخيرة، آنذاك، كان من تقاليدها الابتعاد عن التعليم، وتحاذر من الدولة بشكل عام. إلا أن ذلك العهد لم يعترف في دستوره بقوميات أُخرى.

أما سياسياً فلم يكن التمثيل البرلماني، في العهد الملكي، مبنياً على أساس الملة أو القومية، إنما على أساس المناطق، وكثيراً ما كانت تُمثل المحافظات أو الأقضية من خارجها، كشخص من بغداد يُرشح عن العمارة مثلاً، وهنا لا بد من التذكير أن الأمة العراقية، أو الهوية العراقية، التي دعا لها فيصل الأول حال وصوله إلى العراق وتتويجه ملكاً (آب 1921)، أُهملت مع العديد من الالتزمات تجاه القوميات والمذاهب الأخرى. ومع ذلك ليس لأحد نفي إيجابيات ذلك العهد في التأسيس للحياة البرلمانية، والتقدم المدني، الذي حصل خلال فترة ليست بالطويلة، إذا ما قيس الحال بما كان عليه العراق قبل ذلك العهد.

ألغي النظام السياسي الانتخابي بالكامل بعد 14 تموز 1958 لفترة أكثر من 45 عاماً، وبهذا لم يكن تمثيل القوميات والملل في مواقع الدولة العليا جارياً على الأساس القومي أو المللي أو الطائفي، إنما على أساس مسايرة الاتجاه السياسي والموقف من الثورة إلى جانب الكفاءة، مثلما كان تعيين الصابئي المندائي عبد الجبار عبد الله رئيساً لجامعة بغداد. وقد وصف العديدون من معاصري العهد الجمهوري الأول رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم (قتل 1963) بالعراقي، فوق الميول القومية والدينية والطائفية، لكن ذلك لا يكفي بغياب الحياة البرلمانية، ويبقى منوطاً بقرار التعيين.

عادت الحياة البرلمانية، بعد هزات عنيفة من حروب وحصار واحتلال، بحضور المحاصصة الطائفية والقومية، وغياب المواطنة، وكان أول الخاسرين هم الكيانات الصغيرة، على الرغم من أُصولهم القديمة، ومساهمتهم في تاريخ العراق الثقافي والاجتماعي. كذلك تعقدت العديد من المسائل التي يمكن حلها إذا كانت السياسة مبنية على أساس الهوية العراقية، وتقل المخاوف، وتتعمق الثقة، فما يحصل الآن اتفاقات بين عراقات لا عراق واحد. يراه الكُرد أنه عراق العرب، وما تحت أقدامهم من جبال وأودية هي جزء كُردستان الكبرى، ويراه الشيعة كان مأخوذاً من قبل السُنَّة. بينما يراه السُنَّة أنه تحول شيعياً.. وهلمَّ جرا. أما الأقوام الأقل عدداً فلا ترى لها فيه مكاناً. وهكذا، لا تنتهي المخاوف وتبادل عدم الثقة على الصغيرة والكبيرة. وإلا ما معنى إقرار قانون انتخابات المحافظات باستثناء المحافظات الكُردية بسبب قضية كركوك! ومع هذا لا تفوتنا الإشارة إلى أن هناك ما هيأ الأرضية لانتصار المحاصصة على المواطنة، دشنه النظام السابق بممارساته، وغياب القوى المؤسسة على الانتماء العراقي في المعارضة، لهذا جاءت المحاصصة كواقع حال، لتقسم المجمتع سياسياً إلى طوائف وقوميات.

لكن، حتى لا تكون المحاصصة مجحفة إلى هذا الحد بحق المواطنة، لا بد من مراعاة الفئات التي لا تجد حظاً لها عبر صندوق الانتخاب، لقلة عدد ولتشتت بالمهاجر القسرية. فما معنى أن يُذكر اسم هذا الخليط الاجتماعي في الدستور، بل ويُعد امتيازاً للعراق، ويُفخر به على أنه بلد التسامح والتعايش منذ القِدم! فالعراق الذي ذكره شاعر جاهلي: «فتُغلغلْ لك مالا تُغلَّ لأهلها.. قُرىً بالعراق من قفيز ودرهم»(معلقة زهير) هو عراق هؤلاء! فكيف يُحذف أهل تلك القُرى!

[email protected]