هل تنقذ أمريكا العالم؟!

TT

لو كان في الدنيا عدل لاشتركت كل شعوب الأرض في الانتخابات الأمريكية لأن قرارات الساكن في البيت الأبيض، والجالس في مقاعد الكونجرس يتخذ من القرارات ما يمس حياة البشرية. ولو أن القاعدة التي تقول إنه لا ضرائب بدون تمثيل لها معاني منبتة عن حدود الدول لكان هناك مرشحون من كل بلاد الكوكب في المنافسة الجارية الآن فقط بين ماكين وأوباما في الديار الأمريكية طالما أن دول العالم تدفع «ضريبة» القرارات الاقتصادية الأمريكية، وحالة الدولار صعودا وهبوطا، وانكماش أو اتساع الاقتصاد الأمريكي، وتمدد وانحسار أسواق المال الأمريكية. ولكن لو كما نعلم تفتح أبواب شياطين كثيرة، وفي الأسبوع الماضي كتبت عن حالة العالم وهو على حافة الهاوية لأنه جمع بين ثلاثة من الشياطين: أولها ضعف القدرة على التنبؤ بحالة الاقتصاد العالمي؛ وثانيها حالة السيولة الفائقة لحركة الأموال والأسهم عبر الحدود والقارات؛ وثالثها أن العولمة التي اجتاحت العالم أضعفت دوله ومن ثم بات أقل قدرة على التحكم في حركة الفيروسات والميكروبات التي لم تعد تهدد فقط أجهزة الكومبيوتر بل تهدد الأسواق والمجتمعات.

ولذلك فربما لم تكن هناك صدفة أن «الدولة» التي كانت الفاعل الأول في إطلاق كل أنواع الشياطين كانت هي وحدها التي وقع على عاتقها إنقاذ العالم، والأهم وقف العالم يسلم لها بالقيام بهذه المهمة. وفي كثير من الأحوال فإن الذين وصفوا العولمة بأنها عملية «لأمركة» العالم لم يكن يجانبهم الصواب كثيرا حيث كانت الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية هي الضاغطة دائما وراء فتح الحدود والأسواق. وعندما انهار الاتحاد السوفيتي انهار معه أكبر حاجز آيديولوجي ومادي يقف أمام اكتمال عولمة العالم وانطلاق تفاعلاته بما لم يحدث في التاريخ من قبل. ولم يكن الدور الأمريكي مقتصرا على الضغط من أجل فتح الحدود والأسواق، وإنما عملت على عبورها من خلال أقمار صناعية وشبكات اتصالية وافتراضية وطاقات تكنولوجية ليس لها حدود، وبقوة اقتصادية جبارة طالت أحيانا 30% من الاقتصاد العالمي جعلت الصين تحتفظ بخزائنها بتريليون من الدولارات وهي متأكدة أن هناك ما يكفي من الأرصدة.

وربما لم يكن كارل ماركس مخطئا في كل ما قاله، وعندما تنبأ بأن الرأسمالية سوف تخلق أزماتها من خلال نجاحها الهائل الذي يخلق فائضا إنتاجيا ضخما يخسف بالأسعار لم يكن يعرف بأن الثورة الصناعية والتكنولوجية الثالثة سوف يكون لها نتائج أقوى بكثير مما كان عليه الحال في الثورة الأولى خلال القرن التاسع عشر. وقد صدقت نبوءة ماركس في مطلع ثلاثينيات القرن الماضي حينما حدث الكساد الكبير؛ ولكن ما لم تصدق فيه الماركسية فقد كان قدرة الرأسمالية علي إنقاذ نفسها، واحتاج الأمر إلى عقد كامل وحربا عالمية كاملة لكي تخرج أمريكا والعالم من الكساد. وهذه المرة وخلال الأسبوعين الأخيرين كان ماركس مطلا على الساحة نتيجة الفائض الهائل في الاستثمارات العقارية في الولايات المتحدة ـ وغيرها أيضا ـ التي قام عليها أهرامات من المال والقروض والتأمين وبالطبع جشع بلا حدود. وعندما تجاوز الفائض آفاقه الطبيعية وانخفضت الأسعار ومعها قلت قيمة القروض والضمانات جرى ما بات معروفا بحالة الانصهار التي تعرفها المفاعلات النووية عندما تجري ملايين من التفاعلات مرة واحدة مولدة قدرا عاليا من الطاقة المدمرة.

وكان ذلك على وشك الحدوث عندما أخذت أسواق المال العالمية في الانهيار واحدة بعد الأخرى، وحبس العالم أنفاسه وهو متشكك في قدرة إدارة أمريكية لم يعرف عنها قدرة فائقة على اتخاذ قرارات حكيمة، بل على العكس عرف عنها براعة في التوصل إلى إجراءات حمقاء. وخلال ثمانية أعوام من الحكم أطاحت هذه الإدارة بالفائض الذي حققته الإدارات الأمريكية السابقة التي وضعت أمريكا في مقعد قيادة العالم؛ وفي نهاية حقبة كلينتون كانت قضية أمريكا هي كيفية التصرف في فائض مالي متوقع يتجاوز أربعة تريليونات من الدولارات وهذه تكفل جورج بوش ورفاقه بإضاعتها ومن فوقها عجز متراكم وسمعة ضائعة تسربت من الأيدي الأمريكية فوق رمال العراق وجبال أفغانستان وسهول ووديان غير مأهولة. وربما لم يحدث في تاريخ الولايات المتحدة أن انتظر العالم بنفاد صبر زوال إدارة كما بات منتظرا ذهاب الإدارة الحالية وهو يترقب مباراة الانتخابات الرئاسية الأمريكية.

ولكن الأقدار لها منطقها الخاص، والتاريخ لم يعرف عنه صبر انتظار لحظة حانت، ووقع على عاتق الإدارة الراهنة مهمة إنقاذ العالم الذي أوشكت على تدميره عسكريا واقتصاديا. وخلال العقدين الماضيين جرت أزمات اقتصادية عالمية متكررة وكان علاجها قائما على تعاون دولي بقيادة أمريكية، ولكن الأمر هذه المرة كان أمريكيا في أغلبه لأن مركز الأزمة كان في وول ستريت حيث جرى انصهار المفاعل الاقتصادي العالمي ليس ببعيد عن حالة الانصهار التي جرت في الحادي عشر من سبتمبر 2001 في مركز التجارة العالمي. وإذا كان الانصهار السابق أدى إلى وفاة 3000 ضحية، وثمن اقتصادي يعد بالمليارات، فإن انصهار سبتمبر الجاري كان ضحاياها المحتملين يعدون بمليارات البشر ومعهم تريليونات من الدولارات.

ولكن أمريكا تصرفت كما لم يتوقع أحد، والإدارة الأمريكية خرجت على العالم بقرارات تتحدى كل معتقداتها الذائعة السابقة حينما جرى تدخل حكومة كثيف تدرج من الاستيلاء الفيدرالي المباشر على مؤسسات للرهن العقاري، وشراء كثيف لأسهم في شركات يتوقف على وجودها توازن الاقتصاد الأمريكي والعالمي، وقروض كبيرة لشركات أخرى، وتشجيع شركات على الاندماج في شركات أخرى أكثر صحة، وأخيرا جرى ما ليس منه بد في مجتمع رأسمالي وهو أن تفلس بعض الشركات أيضا كما جرى للسقوط المدوي لمجموعة ليمان برزرز. ووراء ذلك كله وقفت حزمة من الإجراءات التفصيلية التي لها فاتورة وصلت إلى 700 مليار دولار ربما عند التطبيق سوف تتجاوز التريليون دولار نقدا وعدا. مثل ذلك لم يكن باستطاعة دولة أخرى في العالم أن تقوم به أو حتى تحالف من الدول أو حتى عملية تنسيق وتضامن من قبل مجموعة من البنوك المركزية كما حدث خلال الأزمة الاقتصادية الآسيوية منذ عقد من السنوات.

والحقيقة أنني لست متخصصا في الاقتصاد حتى يمكن تقييم مثل هذه الخطوات، ولا أدري عما إذا كان التخصص سوف يكون مفيدا في هذه الحالة حيث الأحوال كلها جديدة ولم يعرفها أحد من قبل، ولكن ما نعرفه أن حزمة الإنقاذ سوف تمر في الكونجرس بعد مقاومة بالطبع لأن المصالح تحت الاختبار أقوى من كل المعارضات السياسية. ولمرة أخرى فإن الرأسمالية تنقذ نفسها حينما نكتشف أن المجموعة التي اتخذت القرارات الكبرى أثناء الأزمة جاءت كلها من رحم الرأسمالية إلى قمة الجهاز التنفيذي الأمريكي حيث كان هنري بولسون وزير التجارة رئيسا لمجلس إدارة شركة جولدمان ساكس المعروفة.

لقد وضعت القرارات الأمريكية العالم عند لحظة لالتقاط الأنفاس، وربما عندما ينتهي الكونجرس من التداول حولها وإصدارها سوف يكون الاستقرار ممكنا، ولكن ذلك لن يعني أن الظروف التي أدت إلى الانصهار في المفاعل الاقتصادي العالمي قد تلاشت لأن مكمنها موجود في غياب نظام للحفاظ على حركة الأسواق في العالم دون أن تختل بفعل الجريمة أو الجشع أو السرعات الزائدة. وفي وقت من الأوقات كان ضروريا أن تكون هناك منظمة للتجارة العالمية تقوم في مجال التجارة بالدور الذي تقوم منظمة الطيران العالمية في مجال الطيران والدور الذي تقوم به منظمة الصحة العالمية في مجال الصحة؛ والآن فإن هناك حاجة ماسة لمنظمة للتعامل مع حركة الأموال، ومؤسسات أكثر قدرة على التنبؤ بفائض الأسواق المختلفة. كل ذلك من المرجح أنه سوف يكون أحد توابع الأزمة، وفي الأزمات توجد الأخطار، ومعها تتولد الفرص، وويل لمن لا يعرف كيف يتجنب الأولى، واللعنة على من لا يعرف كيف ينتهز الثانية!