أميركا الجنوبية تتحرك

TT

قلما تحفل الصحافة العربية بأحوال أميركا الجنوبية، رغم أن هذه المجموعة من الدول تعتبر شريكة لنا في حوار مؤسساتي منتظم بدأ في برازيليا في مايو 2005. وهي مؤلفة من 12 دولة مصممة ـ وهي مؤهلة لذلك ـ على أن تقوم بدور في السياسة العالمية في أفق استعادة التعددية القطبية.

وهذه المجموعة هي أسبق منا في الالتحاق بالحداثة، وأسبق منا في إدراك مستويات متقدمة في التنمية. وقد رصدت في الإحصاءات الدولية أن المستوى الذي تحققه تلك الدول، يتطلب 15 سنة لكي تحققه المجموعة العربية. إلا أنه في المدة الأخيرة تقلص قليلا هذا الفارق الزمني، وإن بقي التفوق قائما.

وهي تحظى بتقييم إيجابي بصفة عامة في المجتمع الدولي الذي يتقبل بسهولة أن يكون لإحداها مقعد عضو دائم في مجلس الأمن في حالة ما إذا طرأ تغيير في ميثاق منظمة الأمم المتحدة.

وقد استقرت أحوالها في نطاق التطور نحو دولة القانون منذ الثمانينيات حينما تخلصت من كل من الأنظمة الديكتاتورية والأنظمة الشعبوية. وهي منخرطة بجد في الإصلاح الديموقراطي، منذ ثلاثين سنة، على عكس ما يمكن أن يلاحظ على غيرها من المجموعات التي فقدت بوصلتها في هذا المجال. كما حققت في غمرة ذلك مؤشرات إيجابية من حيث تنمية الدخل الوطني على إيقاع تطبيق توصيات صندوق النقد الدولي.

وتوجد في المنطقة هياكل تنسيقية مثل البرلمان الأنديني، وميركو سور، وأخيرا أوناسور، وهي هياكل تقوم بتنظيم مشاورات وتنسيق مبادرات مشتركة في الحقول السياسية والاقتصادية والأمنية.

ولا تخلو مسيرتها الاقتصادية من تعثرات، كما وقع في أرخينتينا ـ هكذا ينطق أهل البلد باسم بلادهم، وهو يتركب من حروف يمكن إيرادها كلها بالألفباء العربي بلا تحريف يجعل اسمها في قاموسنا الإخباري «أرجنتين» نقلا عن إنجلترا وفرنسا، أيام كانت الدولتان الأوربيتان تمليان كيفية تهجية الجغرافيا العالمية.

كما أن مسيرتها السياسية تضطرب أحيانا من جراء ظهور اجتهادات تريد أن تغير اتجاه الأمور بشكل جذري، ومن ذلك ما تعرفه بوليفيا منذ مستهل سنة 2006 حينما انتخبت لأول مرة في تاريخها رئيسا ينتمي إلى السكان الأصليين من الهنود الذين تبلغ نسبتهم 60 % من السكان. وحينذاك بدأ الرجل مسيرة سياسية ترمي إلى أن يحتل المقهورون منذ خمسة قرون، مواقعهم في تدبير الحكم، وتكسير النمط الموروث من الغرب، ومن إسبانيا التي استعمرت البلاد حتى 1825. ويلخص الرئيس إيفو موراليس فكرته في الشعار الذي يحث على إنجاز «ثورة ديموقراطية وثقافية لتدارك 500 سنة من الاستعمار».

وإلى حد ما فهو يعتبر أن الاقتراع الذي أجري في سنة 2005 والذي مكن من إفراز أغلبية واضحة للسكان الأصليين، هو بمثابة إعلان الاستقلال. وبمجرد تسلمه الحكم، شجع ناخبيه على التعجيل بقلب الأوضاع، حيث ترأس مظاهرات للهنود زحفت على العاصمة للمطالبة بتغيير دستوري يقلب الأدوار ويضع حدا لتفوق الرجل الأبيض. ومثل هذا برز أيضا في البيرو المجاورة بمناسبة الانتخابات الرئاسية.

وانبرت مقاطعة سانتا كروث الغنية التي تحتضن هي وأربع مقاطعات أخرى 42% من الدخل الوطني، و85 % من الاحتياطي الطاقي إلي المطالبة بحكم ذاتي، يجعل للحكومة المحلية سلطة التصرف في الأراضي وتحديد الجبايات ويمنحها شرطة خاصة وصلاحيات تناقض جذريا نسق الدولة المركزية القائم في البلاد. أي يترك للحكومة المركزية أن تسير الفقر والفقراء.

ودعا الرئيس موراليس إلى استفتاء يرمي إلى قياس درجة تأييد الخيارات المطروحة على البلاد في سياق الديناميكية السياسية التي طرأت، وأسفر الاستفتاء عما سمي بـ«التعادل الكارثي»، أي وجود انقسام في البلاد بشأن استمرار النمط الديموقراطي وبشأن نقل مقاليد الأمور إلى السكان الأصليين.

ولم يقتصر الحوار على مستوى صناديق الاقتراع، بل استعملت القوة من طرف الحكومة والعنف من طرف الانفصاليين. وتدخلت أطراف خارجية في ذلك النقاش الشديد الوطأة، وهو ما أدى إلى تفعيل الآليات الإقليمية لمحاولة تطويق الأزمة. وهكذا انعقدت لأول مرة مجموعة أوناسور، في سانتياغو بالشيلي. وبتأثير من الرئيس البرازلي لولا جنح ممثلو الدول 12 الأعضاء في أوناسور إلى تشجيع الحوار بين الرئيس موراليس وخصومه من «الانفصاليين».

وفي حين ظهر ان الرئيس الفنزويلي هوغو شافيز لم يأت إلا لإلقاء خطاب شديد اللهجة ضد الولايات المتحدة، مال المجتمعون إلى موقف الرئيس البرازيلي الذي توجه في لهجة دراماتيكية إلى الرئيس موراليس سائلا: هل تريد استعمال القوة، أم تريد الحوار. إذا اخترت الطريق الثاني فستجد إلى جانبك البرازيل وأوناسور، أما إذا اخترت الطريق الأول فلتتحمل مسؤوليتك.

وبرجوح مسلك الحوار، تتوقف التدخلات الخارجية، إلا إذا كانت تساعد على الحوار، وليس كما كان يريد شافيز الذي طرد السفير الأميركي من بلاده تضامنا مع بوليفيا، والذي وجه نداء إلى القوات المسلحة البوليفية لكي تقف إلى جانب موراليس.

ويذكر الاتفاق الذي انبثق من اجتماع سانتياغو بمبادرة «كونطاضورا» التي تمت بواسطتها في الثمانينيات معالجة الأوضاع في نيكاراغوا وسائر أميركا الوسطى التي كانت تمزقها الحروب الأهلية. وكان قوام مبادرة «الكونطاضورا» هو تخلي الثوريين عن العنف وإجبار الحكومات الأوليغارشية القائمة في المنطقة على قبول الديموقراطية. وبعد سنوات من التعثر أمكن للحوار أن يفتح الطريق إلى الديموقراطية، وها هي دول المنطقة تعرف انتخابات منتظمة تمكن من التداول على السلطة بكيفية سلمية.

وهذا هو الطريق الذي تقترحه دول أميركا الجنوبية على الرئيس موراليس وخصومه. ولعله قد اقتنع بشيء من هذا حينما أعلن في المؤتمر أن النزاع داخلي بين البوليفيين. وحينما أظهر اقتناعه بأن الحل هو اقتسام الثروات، التي هي ليست في ملك الأقاليم الغنية وحدها.

غير أن هناك ما يغري بتفضيل الخطب الملتهبة والبحث عما يسمى باشتراكية القرن 21 التي يزعمون أنها نسخة منقحة من اشتراكية القرن 20. ويقوم مسعى موراليس على مكونين هما الماركسية اللينينية والأنديجينية، أي نقل الصلاحيات للسكان الأصليين، محل الأقلية الأوربية، الإسبانية الأصل في الغالب. ويصطدم هذا المنطق بواقع أنه بعد 500 سنة، مهما كانت بشاعة الطرق التي استعملت لتغيير الواقع الديموغرافي في أميركا اللاتينية، كيف يستقيم الكلام عن أصليين وطارئين.

إن معالم مفترق الطرق الذي توجد فيه أميركا الجنوبية في الوقت الحاضر، تتكون من خليط من النزعة الطوباوية الداعية إلى اجتهاد للبحث عن طريق جديد للأشياء القديمة التي نعرف الآن مزاياها ومساوئها، وكذلك من طموحات تحذو قادة من طراز الرئيس الفنزويلي هوغو شافيز الذي ينقل «اشتراكية» القرن 20 بحذافيرها حتى وهو يضيف إلى التسمية رقما. وأسلوبه في ذلك هو إعلان قرارات لا يعرفها مساعدوه إلا في اللحظة التي ترد في خطاباته المرتجلة. إنه مثال لرئيس يريد أن يحكم بواسطة الإذاعة.

هناك رجل اشتراكي آخر أكثر مدعاة للاحترام هو لولا، الذي لا يتصرف إلا بعد ألرجوع إلى المؤسسات، وخاصة إلى مؤسسة وزارة الخارجية التي هي مثال للاحترافية والكفاءة. وبفضلهما تمكنت البرازيل من أن تتجنب الوقوع في أي حرب منذ أكثر من 120 سنة مع جيرانها وهم عشرة، تمتد الحدود معهم عشرات الآلاف من الكيلومترات.