المرآة المشروخة

TT

في ليلة شتائية عاصفة اضطررت أن أقطع رحلتي ملتجئاً إلى أحد الفنادق الصغيرة على الطريق، أوقفت سيارتي وحملت حقيبتي ودخلت إلى صالة الفندق الضيقة، فألفيت رجلا واقفا أمام خوان الحجز وبجانبه رجل يبدو أنه المستخدم، سألتهما عن إمكانية حجزي لغرفة، فأنهيا إجراءاتي بسرعة، وحمل المستخدم ذو الوجه الكالح حقيبتي وأخذ يصعد بها في الدرج الخشبي المخلخل إلى الطابق الثاني، وصعدت خلفه بخطوات متعثرة، وفتح باب إحدى الغرف، وصرير مفاصل الباب تكاد تخرق طبلة أذني، ثم ناولني مفتاح الباب الذي لم أشاهد في حياتي مفتاحاً أطول منه، وهو ذكرني بمفاتيح السجون في العصور الوسطى.

أجلت نظري بالغرفة، وإذا بي أمام سرير قديم، هززته ثم جلست عليه لكي أجربه، وإذا بي أكاد أخفس في داخله، وأخذ يهتز تحت ثقلي، ورفاسات السرير المعدنية اللولبية تعزف وتصدر أصواتاً متضاربة، فتيقنت أن ليلتي لن تمر على خير، لأنني من النوع الذي لا يطيق النوم على سرير هزاز، وأحرص دائماً على أن تكون مرتبة السرير من النوع الثابت القاسي، كما أن كل حركة مني أثناء النوم سوف تتجاوب معها تلك (اليايات الرفاسة) بأسخف آلات العزف نشازاً.

كانت هناك طاولة في الركن عليها مراية تسريح مشروخة، (فتكرمشت) ملامح وجهي، لأنني سبحان الله أتشاءم من المرآة المشروخة، ومن المستحيل أن أنظر بها، لهذا فتحت حقيبتي رأساً وأخرجت منها أول قميص أمسكت به ووضعته على المرآة وغطيتها كي لا ألمح وجهي بالصدفة من خلالها، وهذا الاعتقاد ترسخ في نفسي، بسبب امرأة عجوز نصحتني في مقتبل عمري ألا أنظر قط في أية مرآة مشروخة، لأنها على حدّ قولها سوف تسبب لك على التوالي وبانتظام مرض (الشقيقة) ـ وهو الصداع النصفي ـ، كما أن حياتك كلها مع تقادم الوقت سوف تصاب بشرخ ينتهي بك إلى الإفلاس، وإذا لم يحصل ذلك فلا شك أنه سوف يؤدي إلى تحطم أضلاعك.

وهذا هو فعلا ما حصل لي عندما نظرت إلى وجهي في مرآة مشروخة صدفة وعرضاً ولا شعورياً أو انتباهاً مني، ولم تمض عدة أشهر إلا وقد وقعت من الدرج وانشعرت عدّة أضلاع في صدري، والحمد لله أنها كانت في الجهة اليمنى ولم تكن في جهة القلب، حيث يكمن كنزي الممتلئ بالعواطف التي لا تنضب، وبعدها بشهر واحد تعرضت لسرقة حذائي الذي خلعته في الخارج قبل دخولي لأحد المساجد.

كانت حيطان الغرفة مكسوّة بورق جدران مهترئ من اللون الأحمر الداكن الذي يجلب الغم.

وعرفت أنني وقعت (بالشرك)، غير أنني استسلمت وأخذت أشجع نفسي، وأردد بصوت مسموع المثل القائل: (إذا وقعت يا فصيح لا تصيح)، وفعلا لم أصح وإنما توجهت إلى الحمام، وكانت المفاجأة غير المتوقعة، إذ شاهدت (بانيو) أو مغطساً أبيض كبيراً، وفتحت صنبور الماء الساخن فأتاني يهدر هديراً، فقفزت فرحاً وقلت: (جاك يا مهنا ما تمنا)، وهذا هو فعلا ما كنت أتمناه بعد وعثاء السفر، وبدأت أملأ المغطس وأسكب الصابون، وأحضر المناشف، وأتقافز وأغني وأخلع ملابسي وأرمي بها في كل جانب، وعندما امتلأ لم أنزل فيه، لكنني قذفت نفسي فيه حتى كدت أغرق بالرغاوي، كنت بعد تلك الكآبة سعيداً وفرحاً كأي طفل احضروا له لعبة. نسيت النوم، خصوصاً عندما كنت أنظر من خلال شباك الحمام لأمواج البحر غير البعيد وهي تتلاطم، وتذكرت شيئاً ينقصني، وقمت خارجا متمهلا على أطراف أصابعي لأخذ مجلة أتصفحها وأنا في المغطس، غير أنني ما أن أخذتها واستدرت، وإذا بقدمي تنزلق وأهوي بكامل جسمي على حافة (البانيو)، والحمد لله أن ظهري ورأسي كانا سالمين، ويبدو أن صوت الارتطام قد سمعه المستخدم، فأتى يستعلم ويخبّط على الباب، ولم أرد عليه ولم أفتح له، وقضيت ليلتي كلها على أرضية الحمام، وخارج المغطس.

ولا أستبعد أن ذلك كله كان بسبب (المرآة المشروخة).

[email protected]