غياب عربي في القضية الكوردية

TT

عانت القضية الكوردية منذ ظهورها في هذا الجزء من كوردستان، الملحق قسراً بدولة العراق عند تشكيلها في بدايات القرن الماضي، من عدم حضور عربي في سياقها التأريخي وتفاعلاتها وتطوراتها. بمعنى آخر ان الشعوب العربية والسلطات في الدول العربية وحتى النخب السياسية والثقافية كانت غائبة عن هذه القضية ولم تهتم بها باعتبارها مشكلة مشتعلة في جزء من «الوطن العربي الكبير» ولم تعمل على خلق تأثير إيجابي في تجلياتها انطلاقا من انها جزء من مشاكلها المزمنة والتي تمزق البناء السياسي والاجتماعي لمجتمعاتها.

ما عدا بعض الاتفاقات من هذا القائد العربي أو ذاك، أو من هذا السياسي أو المثقف الفلاني لا نجد في الارشيف العربي سياسيا وثقافيا شيئا يمكننا ان نحذو حذوه، او نعتبره اساسا متينا يمكن التعويل عليه في بناء اواصر وجسور مستقبلية قوية. حتى ان الكورد لم يستطع ان يطور هذا البعض من الاهتمامات لأنها لم تكن موقفا راسخا ذات برنامج يتطلع الى المستقبل وإنما كانت ردود فعل وقتية ازاء موقف معين من احدى الحكومات العراقية بغية الضغط عليها وإجبارها على التخلي عنه.

القضية الكوردية بدأت وتطورت بدون ان تلتفت اليها اي حكومة عربية، او شخصية قيادية سياسية، او مثقف يمكنه صنع رأي عام عربي مؤيد او أقله رأي عام على دراية بحقيقة هذه القضية.

القضية الكوردية استمرت وتلاحقت حلقاتها في أزمنة مختلفة وفي ظل حكومات عربية عراقية متعاقبة بدون حل. وكل حكومة عربية عراقية تأتي لتزيد الطين بلة، وتعقد المشكلة اكثر فأكثر وصولاً الى نظام حزب البعث بقيادة صدام حسين ليصل بالمشكلة الى حدودها القصوى من خلال ممارسة سياسة الإبادة الجماعية مستخدما شتى انواع القتل والتغييب الجماعي والقصف بأسلحة الدمار الشامل وبالأسلحة الكيماوية وصولا الى انفلة الشعب الكوردي في عمليات سماها صدام بـ«عمليات الأنفال» راح ضحيتها اكثر من مئة الف شخص لم يعرف حتى الساعة مصيرهم عدا من تم العثور على رفاتهم في تلك القبور الجماعية المنتشرة في جنوب ووسط العراق.

استمرت القضية الكوردية بهذه الوتيرة المأساوية وتوالت فصولها الدراماتيكية على مرآى من الشعب العربي، وعلى ارض يعتبرها العربي وطنه، وعلى مقربة الرمش من العين العربي والأوساط الرسمية والمدنية العربية ساكتة وعندما تتحدث فإنها تتحدث وكأن شيئا لم يحصل، وان اعترفت بحصول شيء فيقلل من اهمية ما حصل ويضع اللوم على عاتق الكورد فيما حصل، مبررا وحشية الأنظمة العربية العراقية التي قامت بتلك الجرائم النكراء باسم الأمة العربية.

القضية الكوردية استمرت والغياب العربي باق وكأن هذا الغياب حقيقة لا بد منها، وموقف متأصل ومتجذر لا يمكن ان يأتي العربي بغيره في اي موقع كان.

عندما قام النظام العراقي باحتلال الكويت واتحدت كل الأنظمة العربية على طرد هذا المحتل قلنا انها بداية تغيير بالنسبة للرؤية العربية للقضايا الداخلية العراقية ومنها القضية الكوردية التي قالوا مرارا وتكرارا انها شأن عراقي داخلي لا رأي لنا فيه.

قلنا إن الأوساط العربية السياسية والشعبية سوف تدرك حقيقة القهر والظلم والاستبداد والقمع الذي مورس داخل السجن العراقي الحصين ضد الشعب العراقي بعربه وكورده وغيرهم من الانتماءات القومية، وان هذا العمل الإجرامي سوف يحرك الضمير العربي ليأخذ موقفا ايجابيا من هذه القضايا باعتبارها مشاكل واقعة فوق رؤوس العراقيين انتجها هذا النظام العربي الذي اعتدى على جيرانه العرب وفتك بشعبه واقتصاده وبنائه التحتي والحضري بوحشية لا مثيل لها.

قلنا انها بداية جديدة وسوف يدرك الكل اننا، العرب والكورد والقوميات الأخرى في العراق، لم نكن نبالغ في تصويرنا لاستبداد هذا النظام فيعيرون انتباههم لنا. سوف يدركون بأن هناك داخل العراق قضية شعب ينبغي حلها بشكل سلمي وديمقراطي فيبادرون لوضعها على قائمة اعمال مؤتمرات جامعتهم العربية أو مؤتمراتهم الإسلامية بغية إيجاد حل سلمي لها يحقق العدل والحقوق لهذا الشعب. هذه المبادرة التي كانت سترفع من الشأن العربي، ويكتب له انه انهى مظالم وممارسات شوفينية لا إنسانية مناقضة للدين الإسلامي السمحاء مورست باسم القومية العربية ضد الشعب الكوردي.

ولكن، ومع الاسف الشديد، لم نر اي شيء من هذا القبيل، بل رأينا إصرارا عربيا على ان يبقى العربي بعيدا عن هذه المشكلة، غير متفاعل معها، لا يعيرها انتباها ولا يقيمها من منطلق انساني او اسلامي او بأبسط الأشكال ألا وهو ان هذه المشكلة قريبة الى درجة لا يمكن ان يتغافل عنها فلا بد من قول شيء فيها حتى وان كانت على سبيل خبر صحفي حيادي.

عندما بدأت بعض الأوساط السياسية والإعلامية العربية تهتم بالقضية الكوردية على اثر انتفاضة الشعب الكوردستاني في آذار 1991 وفي اعقاب دحر القوات العراقية وطردها من الكويت ومطاردة فلولها داخل العراق، دخلت تلك الاوساط من باب إنقاذ النظام وتشويه الحقائق لناظرها العربي والقيام بعملية مسح شامل للدماغ على امل ان ينسى الشارع العربي ما جرى للكويت ومن فعل ذلك. كل ذلك من خلال التأكيد على نظرية المؤامرة ضد الامة العربية وليثبت للرأي العام العربي بأن احدى اوصال تلك المؤامرة هي الكورد. فتبنت بذلك مواقف الشوفينية العربية الحاكمة في العراق وأبقت على غيابها في القضية الكوردية والأصح هو تحويلها الى حضور سلبي وعدواني في القضية الكوردية. بمعنى آخر لم تستطع الاوساط الرسمية وغير الرسمية ان تتحرر من نظرتها المسبقة لكل ما هو غير عربي من مشاكل وقضايا قومية وانتماءات لا تكن العداء للعرب ولا تريد الا ان تحصل على اعتراف بها وبحقوقها، تريد ان تبقى على خصوصياتها وتعيش بسلام مع العرب داخل دول تعترف بالتعددية والديمقراطية.

مع الأسف بقي ذلك الغياب العربي في القضية الكوردية حتى بعد ان شكل الكورد وعلى اثر سحب الادارات من قبل النظام البائد في نهايات 1991 حكومة أمر واقع لإدارة شؤون الاقليم ومن ثم تطورت تلك الحكومة لتنظم اول عملية لانتخاب برلمان تمخضت عنه اول حكومة كوردستانية عراقية تطورت على مر السنين لتثبت جذورها وتقوي اعمدتها وترصن اعمالها بقوانين شتى تهدف الى رقي الشعب والعيش الكريم والتعايش السلمي مع باقي شعوب المنطقة والعالم.

في هذه المرحلة اصبح اقليم كوردستان الحصن الذي تحصنت به كل المعارضة العراقية، الشيعية والسنية منها. اصبح المحطة التي انطلقت منها جميع الانشطة والفعاليات العراقية التي تبتغي التغيير الديمقراطي في العراق.

تحول الاقليم الى صورة تعكس العراق ما بعد صدام ونظامه بما كان يحتويه من فسيفساء وتنوع قومي ومذهبي وديني وفكري تتعايش فيما بينها بسلام وتعمل بجد وإخلاص من اجل بناء عراق مزدهر موحد. حتى في هذه الحقبة بقيت القضية الكوردية تعاني من غياب عربي وكأن العرب بأوساطها المختلفة لا ترى هذا التجمع العراقي العربي المعارض يحتضنه اقليم كوردستان والشعب الكوردي مجازفا بمنجزاتها وحياة شعبها ومتحديا النظام العراقي الذي كان يحشد قواته العسكرية وآلياتها الحربية على بعد خمسة كيلومترات فقط من أربيل المدينة التي كانت تشهد يوميا فعاليات عربية عراقية معارضة لذلك النظام وتحركات رموز عربية عراقية يتعطش ذلك النظام لدمائها.

بات الاقليم، وخاصة بعد سقوط صدام، منطقة تستقطب الاهتمام السياسي، فبدأت دول اوروبية وكوريا واليابان وروسيا وإيران تستقدم لفتح قنصليات لها في الاقليم فاتحة ابواب علاقات متعددة مع حكومة اقليم كوردستان. كما بدأت الكثير من الجامعات الاهلية، التركية والفرنسية والأمريكية، تفتح فروعا لها في الاقليم، معتبرة اياه منطقة ثقافية يمكن العمل الاكاديمي فيه على اعلى المستويات.

ازدهر اقليم كوردستان اقتصاديا وتطور عمرانيا وتقدم تجاريا خلال السنوات الماضية حتى اصبح منطقة استثمارية آمنة تستقطب شتى اصحاب الرساميل والتجار والشركات العالمية والإقليمية الايرانية والتركية بشكل خاص، ولكن تبقى الحصة العربية منها هي الاقل حتى الآن.

إذن ان الغياب السياسي العربي في القضية الكوردية تحول الى غياب اقتصادي واستثماري كذلك، بمعنى آخر الموقف السياسي الخاطئ في زمن معين تحول الى خطأ اقتصادي استثماري في زمن آخر وكأن العربي مصر على المشي قدما في هذا الاتجاه حتى وان كان على حساب مصالحه ومنافعه.

الشعب الكوردستاني في العراق على يقين بأن هناك آليات عمل مشتركة لم تجرب بعد وبالأخص الاقتصادية منها والتي سوف تدر على الكل بالمنافع والخيرات وتساعد على إعادة صياغة المواقف السياسية العربية للقضية الكوردية وأبعادها العراقية، كما تساهم مساهمة جادة في انتاج وعي حقيقي حولها من خلال تغير زوايا النظر اليها شعبيا ورسميا.

الكوردستانيون يتمنون ان لا يحذو اصحاب الرساميل والشركات العربية حذو السياسيين العرب وان يتعاملوا مع اقليم كوردستان من منطلقات اقتصادية يمكن الاستفادة من مواردها وما موجود في بواطن ارضها من مواد اولية ونفط، اضافة الى طبيعتها الخلابة وجبالها ووديانها وغاباتها التي تتحول بكل سهولة الى مناطق سياحية مربحة. عسى ان يتعامل الرأسمالي العربي مع اقليم كوردستان باعتباره سوقا جديدة مفتوحة لجميع انواع الاستثمارات وان يتحرك نحوه قبل ان يزدحم بغيرهم.

الشعب الكوردستاني كان على يقين سابقا بأنه لو سمح القادة والسياسيون العرب للقضية الكوردية بولوج الاروقة السياسية العربية لكانت اوجدت الطريق الى حلول مرضية قبل وصولها الى الفصول الدراماتيكية التي شهدتها في العقود الماضية. وعلى الرغم من ذلك فان الأوان لم يفت وإن القضية لم تحل بعد وهناك فصول لها تحتاج الى تكاتف كل الخيرين في المنطقة وبالأخص الشعوب العربية وأوساطها السياسية والمدنية من اجل حلها قبل ان تدخل الى متاهات لن يعرف احد الى اين تأخذ بالعراق.

الكوردستانيون في العراق الجديد متمسكون بعراقيتهم، ومنتمون الى العراق الذي يضمن حقوقهم ويصون كرامتهم ويشركهم في كل العراق سياسيا واجتماعيا واقتصاديا، ولا يرون بديلا لتحقيق هذه الاهداف العراقية الا في الدستور الذي يحقق بناء عراق ديمقراطي فدرالي موحد. فتوقعهم هو إنهاء الغياب العربي في القضية الكوردية وخاصة في هذه المرحلة الانتقالية الحساسة التي دخل فيها العراق من غير رجعة. المتوقع هو مساندة المطلب الكوردي الدستوري في إحلال السلم الاجتماعي والسياسي من خلال اعادة تنظيم العراق دولة واحدة موحدة فدرالياً.

* كاتب وباحث كردي

[email protected]