«جهاديون» على كرسي الاعتراف

TT

«شمال لبنان صار قاعدة حقيقية للتطرف تمثل خطراً على سوريا»، كلام الرئيس السوري بشار الأسد هذا الذي نشر في «جريدة البيرق» اللبنانية يوم الثلاثاء الماضي، يجعلك تصدق ان مخاوف الإسلاميين اللبنانيين ومعلوماتهم وتحليلاتهم لا تأتي من فراغ. فهذه ليست المرة الأولى التي يحذر فيها الرئيس السوري من المتطرفين في شمال لبنان، لكن الكلام هذه المرة بدا أوضح وأصرح. ولكن قبل التصريحات السورية بشهور، كان بمقدورك ان تسمع من الإسلاميين الطرابلسيين، وعلى مختلف مشاربهم، انهم صاروا مطلوبين دولياً وإقليمياً، والحكم قد صدر بالانقضاض عليهم، أما التنفيذ فمسألة وقت. وبين الإسلاميين من يؤكد لك أن معلومات تسربت اليهم مفادها ان ملف الجهاديين في شمال لبنان، هو من الأهمية، بحيث انه كان حاضراً أثناء قمة «الاتحاد من أجل المتوسط» التي عقدها الرئيس ساركوزي في باريس خلال يوليو الفائت، وتم بحث هذا الملف مع سوريا وبوجود تركيا.

والسؤال الذي لا بد ان توجهه لإسلاميين على هذه الدرجة من اليقين أن الحبل قد بدأ يلتف حول أعناقهم، هو: لماذا أنتم تحديداً والأصولية ليست حكراً عليكم، فالمنطقة تعج بالجهاديين والتكفيريين؟ عندها ستجد من يشرح لك بأن لبنان أمر آخر، وان فرنسا وأوروبا كلها لم تشعر بهلع من التطرف في أفغانستان، ولم تتجند جدياً لمحاربة «القاعدة» في العراق، ولم يسبق للعالم أن تحمس وتكاتف لقتال إسلاميين كما يحدث الآن في الشمال. ففرنسا التي أوجدت لبنان وطناً للمسيحيين، لا تستطيع ان تتركه اليوم نهباً لأصولية إسلامية، تكفّر الشيعي والعلوي فما بالك بالمسيحي؟ ثم ان لبنان يشارك الأوروبيين المتوسط وهو أقرب إليهم جغرافياً من بغداد وقندهار، وله حدود مع إسرائيل، وفيه مقاومة شيعية مدعومة من إيران، وأميركا ليس لها من هدف أكبر من مقاومة الإرهاب. هذه الأطراف جميعها على تناقضاتها تتقاطع مصالحها هذه المرة، وتجد راحتها في القضاء على الإسلام الجهادي السني الموجود بثقله الحركي شمال لبنان. وفي ما يشبه النقد الذاتي يقول أحد السلفيين معلقاً على تنامي الخوف من الحركات الأصولية في الشمال: «لقد أخطأ السلفيون في استعراض قواهم بشكل مستفزّ، خاصة حين خرجوا مؤخراً في تظاهرة حاشدة في طرابلس، للمطالبة بالإفراج عن المعتقلين الإسلاميين في السجون اللبنانية. لقد كانوا كثراً بملابسهم التي تميزهم عن غيرهم، وبدوا غير مريحين في مظهرهم وسلوكهم وخطابهم. المجتمع اللبناني لا يتقبل هذه الأجواء. أنا سلفي ولم أستوعب ما رأيت وكنت مستهجناً، فكيف بالمسيحي مثلاً».

لا ينكر الإسلاميون في شمال لبنان انهم باتوا قوة، مشتتون نعم، ومشرذمون لكن التجربة أكدت أن التيارات الدينية تتكاتف عند استنهاضها لأمر عقائدي، وبالتالي فهذه قوة كامنة صالحة للاستثمار عند أي مفترق.

ومن المفارقات العجيبة، ان طرابلس التي عرفت بأنها معقل للشيوعيين أثناء الفورة الشيوعية، عادت وعاشت في ثمانينات القرن الماضي تجربة فريدة ربما لم تعرفها اي منطقة أخرى في لبنان، حين سيطر «تيار التوحيد الإسلامي» على المدينة أثناء الحرب الأهلية، وأخضعها لأحكامه الإسلامية وعيّن أمراء على أحيائها، فرضوا سلطانهم على العباد. تجربة أسقطها السوريون بالسلاح. ولعل الحلم بقي يراود الإسلاميين حين ساندوا جهراً ثم سراً حركة «فتح الإسلام» في مخيم نهر البارد القريب من طرابلس، وفتح بعضهم معركة دامية في المدينة استمرت أياماً في محاولة للسيطرة عليها وإعلانها إمارة إسلامية. لكن الجيش اللبناني هو الذي قضى على المحاولة هذه المرة وكانت ما تزال في المهد. ولا ينكر الأصوليون الطرابلسيون في مجالسهم ان الخلايا الجهادية النائمة كثيرة، وبالإمكان استنهاضها عند الضرورة. ولا يخفي هؤلاء انه بعد أحداث 7 أيار 2008 واجتياح حزب الله وحركة أمل لبيروت، عاد النفس القتالي إلى أصحاب التوجهات الأصولية وشوهدوا في الأحياء يحملون السلاح ويقاتلون، للدفاع عن كرامة السنة التي أهدرت.

بات شائعاً، بعد التطورات الأمنية العديدة التي حدثت في لبنان وسوريا، وورد اسم الجهاديين اللبنانيين فيها كمتهمين من الدرجة الأولى أن تسمع الأصوليين في مجالسهم يقومون بمراجعات نقدية حادة لا بل مفاجئة في جرأتها. وليس النقد الذاتي الذي تسمعه هنا هو تراجع عن هدف أو مبدأ، لكنه اشبه بحركة «جزر» باتت بالنسبة لهم إلزامية كي يحفظوا وجودهم، بانتظار فرصة سانحة أخرى تسمح لهم بمدّ أكبر واطول عمراً. لهذا لا تستغرب ان يقول لك احدهم: «لقد بت على يقين بأن الإسلاميين لم يتعلموا من دروس الماضي لأنهم دائماً ما يخطئون المكان والزمان والهدف. التاريخ يبرهن، من أيام الرومان مروراً باليهود ونبوخذ نصّر، وصولاً إلى تشي غيفارا، بأن كل الثورات التي لا تدعمها دول تسحق.

يبقى السؤال بالنسبة للإسلاميين: من هي الجهة التي ستكلف بسحقهم، بعد أن تأكدوا بأن لا دولة تريد أن تساند ثورتهم. هم لا يوافقون بالضرورة على الرأي الشائع بأن سوريا ستقوم بالمهمة عبر اجتياح شمال لبنان براً، وإن كان هذا ليس مستحيلاً. فليس ببعيد أن تتم فبركة أحداث وانفجارات ضد مسيحيين وعلويين يتهم بها إسلاميون. هكذا تدخل سوريا تحت ثلاثة عناوين كلها برّاقة بالنسبة للمجتمع الدولي. العنوان الأول هو حماية الأقليات المسيحية والعلوية، وربما غيرها أيضاً كما حصل سابقاً. أما العنوان الثاني فهو مكافحة الإرهاب، في ما العنوان الثالث هو حماية الخاصرة السورية. ولكن هناك سيناريوهات أخرى بديلة قد تكون أنجع واقل كلفة، منها ان يسمح لسوريا بضرب مواقع معينة للجهاديين شمال لبنان كما سمح لتركيا بضرب الأكراد شمال العراق من دون اجتياح. وهناك سيناريو آخر بدأ يطل برأسه، وهو ان يتولى الجيش اللبناني الأمر، وهذا ربما ما يمهد له من خلال استهداف الجيش بسيارات مفخخة واتهام الإسلاميين بها. أما السيناريو الأخير الممكن، وقد يكون الأسعد والأفضل، فهو ان يعمل على إبرام اتفاق جنتلمان بين الجماعات الإسلامية والدولة اللبنانية، تسلم بعده هذه الجماعات سلاحها طوعاً للجيش اللبناني، بعد أن أدركت خطورة الموقف، وصرامة القرار الدولي المتخذ بحقها.

[email protected]