أزمة.. وفرص

TT

على غرار المقولة الشهيرة: «الحروب أكثر خطورة من أن تترك للعسكر» يصح القول اليوم ان النظام الرأسمالي أصبح أكثر تعقيدا، من ان يترك للرأسماليين وحدهم.

انهيار «وول ستريت» قد يكون حصيلة سوء تدبير ـ وتقدير أيضا ـ من قبل عدد محدود من كبار مسؤولي المؤسسات الرأسمالية التي «تعولمت» الى حد الخروج عن نفوذ الدولة المركزية التي تنتمي اليها.

ولكن، كما أن انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1989 لم يعن انهيار الاقتصاد الموجه بكامله ـ بدليل استمراره بل وازدهاره في الصين ـ فإن انهيار «وول ستريت» لا يعني نهاية النظام الرأسمالي، بقدر ما قد يعني نهاية مرحلة الرأسمالية المنفلتة من كل قيد أو رقابة.

من هذا المنظور، لا يوحي رفض الكونغرس الاميركي لخطة الانقاذ المالي المقدرة بـ700 مليار دولار، تفهما شموليا لأزمة «وول ستريت» بقدر ما يعكس تهربا، دوافعه الرئيسية سياسية، من مواجهة استحقاق الانتقال من مرحلة الرأسمالية «المتوحشة» الى مرحلة الرأسمالية المضبوطة، ان لم يكن الحضارية أيضا.

لا بد من الاعتراف أن أحدا لا يحب البنوك، حتى في افضل الايام. الا أن العداء للبنوك الكبرى، الذي رشح من مناقشات الكونغرس الاميركي لخطة الانقاذ، قد يكون ظاهرة نفسية عامة، ومكبوتة، وجدت في الازمة الراهنة فرصة للتعبير عن نفسها.. ولكن المشكلة تبقى انها فرصة غير مناسبة لاقتصاد الولايات المتحدة أولا، والنظام الرأسمالي العالمي ثانيا.

ولكن الاعتقاد السائد في أوساط العديد من السياسيين الاميركيين بأن السوق وحده قادر على تصحيح الوضع، وأن ترك الأزمة لـ«عناية» قوى السوق سيعيد الأمور الى نصابها، يعكس شكلا من اشكال الطوباوية الاقتصادية التي يرفضها النظام الرأسمالي بحكم طبيعته الرأسمالية.

ولكن هذا الاعتقاد يطيح فرصة تاريخية لإعادة تأهيل الدور الذي فقدته الدولة الرأسمالية في عصر العولمة: دور الملاذ الأخير للتمويل.

لا جدال في ضرورة وضع نظام اقراض اكثر تشددا، ولا جدال في ضرورة تطبيق نظام اكثر شفافية، ليس فقط على توظيفات المؤسسات المالية الكبرى، بل على ادارتها ايضا.

ولكن عودة الدولة الرأسمالية الى لعب دور الملاذ الأخير للسيولة والتمويل، وبالتالي الى «منظم» الآلية المالية في اراضيها، بات المدخل الطبيعي لعودة النظام الرأسمالي نفسه الى الانضباط في حدود متعارف عليها، وفي الوقت نفسه التقييد باشراف خارج عن وسطه تمارسه جهة رسمية عليه.

غير خاف أن تطورات الأزمة الراهنة تؤكد باطراد والحاح، أهمية مد السوق بحجم ضخم من السيولة وبأقصى سرعة ممكنة، وخصوصا المؤسسات المتعثرة في هذا السوق.

وعلى هذا الصعيد يفرط اعضاء الكونغرس الاميركي في فرصة تبني الحل المناسب للازمة.. في الوقت المناسب.

وإذا كانت امكانات الخزينة الاميركية ستنوء بحمل هذه المسؤولية وحدها في هذه الظروف الصعبة، فلا بأس من أن تطلب مساعدة العالم الرأسمالي الآخر ـ وحتى غير الرأسمالي ـ في تأمين السيولة المطلوبة لتعويم المؤسسات المتعثرة واعادة الحياة الى شرايين الاقتصاد العالمي، خصوصا أن الأرقام الرسمية تشير الى ان اليابان وحدها، قادرة على ضخ مليار دولار في مشروع كهذا، وان بإمكان روسيا وتايوان ضخ خمسمائة مليون اخرى، علما بأن الدولة «الماركسية» الناجحة الصين، تملك وحدها احتياطات من القطع الأجنبي تصل قيمتها الى 1.500 مليار دولار.

قد يكون من الافراط في التفاؤل توقع ان «تمد» الولايات المتحدة يدها الى الخارج طلبا للمساعدة في حل أزمة أميركية بالأصل.. ولكن ماذا يمنع ان يكون هذا الطلب بداية مرحلة جديدة من العولمة العقلانية؟