القاعدة والإرهاب والتطورات الجديدة

TT

يبدو من كلام أيمن الظواهري عشية الحادي عشر من سبتمبر لهذا العام أنّ القاعدة تضعُ لنفسِها هدفين، أحدهما قديم، والآخر مستجدّ. الهدف القديم: استمرار مقاومة «الحرب الصليبية» على الإسلام، أي الاستمرار في مواجهة الولايات المتحدة. والهدف الجديد: إيران باعتبار تحالُفها مع الولايات المتحدة من قبل، وباعتبار إضرارها بقضايا المسلمين، ومن ضمنها قبول حزب الله للقوات الدولية بجنوب لبنان!

هذا لناحية الأهداف. أمّا على الأرض فلا تتحرك للقاعدة غير ساحتين: الحدود الجبلية بين باكستان وأفغانستان، وما يُسمَّى القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، على حفافي الصحراء المحاذية للجزائر والمغرب وموريتانيا.

ولنتفحص هذه الخارطة الجديدة أيديولوجياً وميدانياً لكي نرى أين تتجه الأمور، وسط التنافُس المستجدّ بين عدة فُرقاء على إدانة الإرهاب، والتبرع بالمسارعة لمكافحته والقضاء عليه، وكان بين آخر مَنْ قالوا ذلك الرئيس السوري بشار الأسد، والمرشحان للرئاسة الأميركية.

أمّا لجهة الهدف الأول؛ فإنّ «الحرب على الصليبيين» ما عادت متابعتُها ممكنةً لا في الولايات المتحدة، ولا في البلدان الأوروبية. وما بقي هناك غير مكانين يمكن التماسُّ من خلالهما مع العدوّ: أفغانستان، بسبب وجود قوات حلف الأطلسي فيها، وجنوب لبنان، بسبب وجود القوات متعددة الجنسية. وكانت الساحة المثالية لمواجهة الأميركيين في نظر القاعدة طوال السنوات الخمس الماضية هي الساحةُ العراقية، وفيها 150 ألف جندي أميركي، وقوات أوروبية وغير أوروبية. وبعد مذابح مهولة بين الطرفين، والتسبُّب في نزاع شيعي/ سني، استطاع الأميركيون هزيمة القاعدة أو توجيه ضربات قاصمة لها من خلال عدة أساليب: تجفيف منابعها وخطوط إمدادها بإقفال الحدود مع سورية، وكانت الحدود المتاحة أكثر من غيرها للقاعدة ولكلّ من يريد مقاتلة الأميركيين بالعراق. والأُسلوب الثاني: إغراء رجالات القبائل العراقيين بالانقلاب على القاعدة، وتشكيل تنظيمات لمقاتلتها. وقد نجح هذا الأسلوب بسبب مضايقة القاعدة للعراقيين السنة بالأهداف الغامضة، وبالانتقال من مصارعة الاحتلال إلى مصارعة الشيعة، وبالإعلان الوهمي لدولة العراق الإسلامية. وقد بلغ عدد المُنضوين في «قوات الصحوات» ما يزيد على المائة وخمسين ألفاً. والأسلوب الثالث في مكافحة القاعدة بالعراق كان بفرض أهداف وتحركات عليها من طريق التشكيلات القتالية الأميركية، جعلتْ من المستحيل الاستمرار بأسلوب حروب العصابات والتفجير.

وهكذا فقدت القاعدةُ الميدان العربيَّ الرئيسيَّ لنشاطِها؛ في حين ما استطاعت الاستمرار في الحركة بالمملكة العربية السعودية والدول الخليجية الأُخرى. وإذا عُدْنا إلى نقطتي التماسّ الباقيتين واللتين ذكرناهما من قبل في جنوب لبنان، وعلى الحدود بين أفغانستان وباكستان، ربما أمكن لنا أن نتبيَّنَ أسبابَ سُخْط الظواهري على إيران وحزب الله. ففي جنوب لبنان هناك القوات الدولية، وهناك حزب الله. وقد حدثت عدة عملياتٍ غامضة ضد القوات الدولية عامي 2007 و 2008، ويبدو أنها أُحبطت بالتعاوُن بين الحزب والقوات الدولية. ومع أنه ليس من المؤكَّد أنّ القاعدة هي التي قامت بتلك العمليات؛ فإنّ الذين تسلّلوا إلى الجنوب كان لا بد أن يعرف السوريون بهم. وهكذا ما سخط الظواهري على السوريين رغم أنهم أوقفوا دعم التسلُّل إلى العراق. بينما سخط على حزب الله لأنه يعترف بالقوات الدولية، ويحميها! وكان الظواهري قد قال من قبل إنه مترددٌ في العمل لتحرير فلسطين من جنوب لبنان لأنّ الذين يعملون هناك هُمْ عملاء لجهاتٍ إقليمية ودولية، وهو لا يريد أن يظهر بمظهر المُحالف لهذا الطرف الإقليمي أو ذاك، لأنه عندها لا يكونُ جهاداً في سبيل الله! أمّا الآن فصارت حجتُهُ أنّ النضال مستحيلٌ هناك لدفاع حزب الله عن القوات الدولية! لكنّ الملحوظ في كلّ الأحوال أنّ المستهدَف بالدرجة الأُولى من جانب جماعة الظواهري هم القوات الدولية (= الصليبيين) وليس جنود الجيش الإسرائيلي. وبذلك تبقى تلك النقطة الغامضةُ في برنامج القاعدة وفي «جبهة مجاهدة اليهود والصليبيين» الشهيرة من العام 1998، أي أنّ القاعدة وبخلاف كل التنظيمات الثورية القومية والإسلامية، ما جعلت مكافحة الصهيونية وإسرائيل ضمن أَولوياتها باستثناء وجود «اليهود» في عنوان الجبهة العتيدة!

أمّا الجبهة الأفغانيةُ/ الباكستانيةُ، والتي يبدو أنّ ابن لادن والظواهري، كليهما، يوجدان فيها؛ فلا تبدو مستعصيةً على الإخضاع، رغم ازدياد الاشتباكات هناك. ذلك أنّ الجيش الباكستاني يحاولُ القيام بمحاولةٍ تُشبه محاولة الأميركيين بالعراق مع قوات الصحوة. والمَعْنيُّ أنّ القبائل هناك، وبعد وفاة الأخوين محسود، تميلُ إلى التهدئة مع الجيش، وليس مع الأميركيين، من طريق التعاوُن مع الجيش في إنشاء قوات شبه نظامية حليفة له، تحمي تلك المناطق، وتطرد عناصر القاعدة منها. وما نجحت المحاولةُ حتى الآن، لكنّ الآمالَ بالنجاح قائمة، بعد اشتداد التوتُّر بين الجيش والقبائل من جهة، وبين الجيش والأميركيين من جهةٍ ثانية. وستكونُ الخطوةُ التاليةُ للتهدئة على سائر الجبهات مساعدة الأميركيين للجيش الباكستاني على إقامة قوات الصحوة الباكستانية في غياب الزعامة المتشددة لآل محسود.

من جهةٍ ثالثةٍ يحاولُ الأفغانُ منذ مدة إجراء مفاوضاتٍ مع طالبان أفغانستان بشرطين: التخلي عن العنف، والتخلي عن القاعدة. وما نجحت المحاولات هذه، وإن يكن كثيرون من الصفّ الثاني والثالث من طالبان، يتعاونون اليوم مع الحكومة الأفغانية.

وإذا نجحت هذه المحاولات، فلا تبقى غير قاعدة المغرب العربي. والمعروف أنّ هؤلاء كانوا موجودين من قبل بمناطق التخوم الصحراوية، وهم من أهل تلك الجهات. وما فعلوهُ هو أنهم أعلنوا الانتماء للقاعدة، ووافقت هي على ذلك من خلال بعض المبعوثين. وليست هناك وسيلة لمعرفة مدى قوتهم، ولا مدى جاذبيتهم أو قُدرتهم على اجتذاب العناصر الجديدة. وهم بالطبع أقلّ خطراً من العناصر على الحدود بين أفغانستان وباكستان إذ هم أقلّ تنظيماً وعدداً، ولا يملكون أهدافاً واضحةً، لكنهم من جهةٍ ثانية ليسوا مُحاصَرين كحصار الآخرين على الحدود السالفة الذكر.

وهكذا لن تكون لتهديدات الظواهري للصليبيين والإيرانيين آثارٌ كبيرة. فهو لا يستطيع أن يفعل شيئاً في إيران، وما عاد يستطيع ذلك في العراق. كما لا يستطيعُهُ في جنوب لبنان. والطريف أنه في هذه الساحة، يبدو الرئيس الأسد الذي عرف القاعدةَ جيداً في السنوات الماضية، الأكثر تشدداً ضدَّها. ويرجع ذلك بالطبع إلى العلائق الدولية التي يريدُ تحسينها بزعم مكافحة الإرهاب. أمّا العناصر المتشرذمة من بقايا من كانت لهم ارتباطات بالقاعدة، فهم تحت سيطرة الأجهزة السورية، وقد سبق أن استخدموهم في كلّ مكانٍ وبخاصةٍ في لبنان. ويستحيل استخدامُهُم بعد الآن في سورية كما في لبنان!

بيد أنّ بعضَ المراقبين يشيرون إلى أنّ الظواهريَّ والرئيس الأسد على حدٍ سواء، عندما يتحدثان سلباً أو إيجاباً عن القاعدة، يعْنون بذلك العناصر الموجودة بمخيَّم عين الحلوة، والمشهدُ فيه غير واضح المعالم. ولا يدري أحدٌ هل أولئك الذين يذكرون عَلَناً أُسامة بن لادن، كانت لهم ارتباطاتٌ به بالفعل أم هي أَوهامٌ ورغبات، شأن شاكر العبسي، وأتباعه؟!

ولنقل كلمةً عن الجاذبية الممكنة الباقية للقاعدة، ومدى استطاعتها اجتذاب أو تجنيد عناصر جديدة، وإن عملت بشكلٍ مستقلّ. فقد قبض السعوديون قبل مدة على شبان وشابات يعملون ويعملن على التجنيد عبر الانترنت. ولا يمكن بالطبع تقدير التأثير الذي يملكه هؤلاء. لكنه ولا شكَّ محدودٌ بعد مُضيّ هذه السنوات.

وفي الخاتمة، على مشارف العام الثامن لتفجيرات الحادي عشر من سبتمبر، يتصاعد التهويل بالقاعدة من جانب بعض مرشحي الرئاسة الأميركية، ومن جانب بعض الأنظمة العربية. والقاعدة موجودةٌ (في الإعلام) في كل مكان، وغير موجودة في أيّ مكان. والذي يحدث منذ العام 2006 أنّ نصف الذين يقومون أو يزعمون القيام بعملياتٍ باسم القاعدة، هم مُخترَقون من الأنظمة ومن الولايات المتحدة. وكذلك الأمر مع الذين يهدد بهم النظام السوري باعتبارهم القاعدة هم في الحقيقة بقايا تلك الظاهرة السالفة.

إنّ المقصود هنا ليس القول إنّ القاعدةَ ما عادت تشكّل تهديداً. بل الذهاب إلى أنّ كثيرين بعد هذه السنوات من الذين واللواتي، يزعمون العمل مع القاعدة يقعون الآن في خدمة أسيادهم الجُدُد، وهؤلاء الأسياد منهمكون في العمل على بيعهم أو على المُساومة عليهم أو التهويل بهم. أمّا الأصول الأيديولوجية والجهادية فقد خضّبها الدم، وسقطت من الوعي ومن الواقع. فماذا يعني الانتحاريُّ الآن، وماذا كان يعني قبل عشر سنوات؟! وماذا تعني القاعدةُ الآن، وماذا كانت تعني بعد العام 2001؟ أسئلةٌ لا بد من الإجابة عليها قبل الاستمرار في التهويل بالإرهاب الذي ما عاد استغلالُهُ وقبضُ ثمنه ممكناً حتّى من جانب الأميركيين!