ما هو ثمن الأصابع؟!

TT

هل تريدون أن تأخذوا شيئاً من العِبر؟! إذن خذوها ممن عايشوها.

وإليكم التجربة التي خاضها ذلك الشاب الذي خرج ثملا من حفلة أقامها أصحابه، وعند أحد الحواجز أوقفه رجل بوليس، وطلب منه أن ينفخ بكيس اختبار لكمية الكحول، بعدها احتجزوه في القسم إلى موعد المحاكمة، وفي المحكمة خيّره القاضي إما بقضاء خمسة أشهر في السجن أو الانخراط في الأشغال المفيدة اجتماعياً مدة 240 ساعة.. فاختار الحكم الثاني فهو من وجهة نظره أرحم من السجن بمراحل.

وفعلاً ذهبوا به إلى مستشفى يعالج المصابين من الحوادث، حيث إن أغلبهم من المشلولين الذين يعلّمونهم على مهل وبطول أناة، التي قد تتيح لهم يوماً استعمال أطرافهم مجدداً.

وكانت من ضمن المهمات المنوطة به دفع كراسيهم المتحركة، وتشغيل المصعد الذي يضعهم في مغاطس الماء، وأن يحادثهم ويبث فيهم دائماً روح الأمل.

ويقول: ذهلت من هذا العالم الرهيب المجهول الذي لا نفطن له ونحن أصحاء نجري ونلهو في صخب الحياة. لقد رأيت ضحايا حوادث الطرق مسمّرين في كراسي ذات عجلات وبعضهم لن يفارقها أبداً.

وشعرت بالخجل عندما حكى لي رجل مشلول أن سبب إصابته ما هو إلاّ من جراء صدمة سيارة كان يقودها رجل ثمل مثلي.

وفي يومي الثاني التقيت بشاب أصغر مني، وكان يقود دراجته النارية وصاحبه خلفه، والاثنان كانا يرتديان خوذتيهما، وكانت سرعته تقارب 180 كيلومترا في الساعة، ثم زلقت الدراجة فقتل صديقه على الفور وهو أصيب بشلل رباعي ولم تبق في نفسه غير الحسرات التي لن ترجع عقارب الساعة إلى الوراء.

وذات يوم أوشكت أعصابي أن تنهار، حيث شاهدت معركة لرجلين مقعدين ومتقابلين على كرسييهما وهما يتصايحان ويتشاتمان بأقذع الألفاظ في قاعة الطعام، وأقسم كل واحد منهما أنه سوف يقتل الآخر لو ظفر به، لكن مثلما يقول المثل: العين بصيرة، واليد ليست قصيرة فقط لكنها مشلولة، وليس هناك من عضو متحرك غير اللسان.

الواقع لقد وقفت متسمراً عاجزاً عن المساعدة والفصل بينهما، وعرفت فيما بعد أن هذين الرجلين قد أقعد كل واحد منهما الآخر إثر اصطدام سيارتيهما ببعضهما، وقد توفيت زوجة أحدهما في الحادث، فيما دخلت ابنة الآخر في غيبوبة كاملة ميئوس من شفائها.

وبعد رابع يوم أحسست باضطراب، واسودّت الدنيا بعيني، وكأنني أعيش في كابوس لا أدري متى أفيق منه، خصوصاً أنني أساعد مشلولا في مغطس الماء وهو يحاول أن يقبض بأصابعه على (الاسفنجة)، لكنه لا يستطيع، وقال لي ذلك الرجل بصدق: إنني أتمنى أن أخسر كل ما لديّ من مال وأحصل على يد مثل يدك وأصابع متحركة مثل أصابعك.. بعدها طلبت أن اتصل بقاضي المحكمة وقلت له: إنني على استعداد أن أقضي بالسجن سنة كاملة بدلا من الخمسة أشهر، على أن لا أتم ساعات محكوميتي في هذا المستشفى، ورفض القاضي واستمررت في معايشة الأهوال، وخرجت بعدها إنساناً جديداً يقدّر قيمة حياته وحياة الآخرين.

وبدوري أتمنى لو أنه إذا قبض على كل مخالف قد يتسبب بكوارث مرورية لا يودع بالسجن، لكن يطاف به على كل المستشفيات، ويرى بأم عينه المصابين والمشلولين والمقطعة أطرافهم، وعليه أن يغسل وينظف حماماتهم.

[email protected]