لمواجهة توابع الزلزال: تأهبوا للدفاع عن ثرواتكم وأرزاقكم

TT

على الرغم من غلظة الحس وبلادته، والانغلاق المخبول أو المجنون دون النصح والمشورة (المجانية)، فإننا عازمون ـ بعون الله وتوفيقه ورحمته ـ على بذل النصح والمشورة لأسرتنا البشرية وقادتها أولا: لأن ذلك من موجبات ديننا تجاه الناس كافة: مؤمنهم وكافرهم برهم وفاجرهم. ثانيا: لأننا نحن البشر في سفينة واحدة إذا سُمح لراكب عابث بخرقها: غرق الركاب كلهم جميعا.. وأنه ليعتري المرء ـ أحيانا ـ شيء من الزهد في النصح والمشورة بسبب غلظة حس المتلقي ـ من أصحاب القرار ـ وانغلاق عالمنا هذا، عقله وفكره وضميره، بيد أن المسؤوليتين الآنفتين تتغلبان دوما على الجنوح السلبي إلى الزهد: فيما نحسبه نصحا نافعا، ومشورة مجدية.

إن تاريخ البشرية مشحون بالأزمات من كل نوع، لأن هناك نوعا من البشر ـ على مستوى الأفراد والدول ـ مولع بأن يفقأ عينيه بيديه، أو يهوي في حفرة سحيقة سقط فيها غيره من قبل، يسقط في الحفرة وهو لا يزال يتمتع بأداة الابصار الحسية أو المادية.. وإذا كان هذا السلوك سيئا ومدمرا، فإن ما هو أسوأ منه: (الغش الإرادي في أدوية علاج الأزمات).. ومن صور هذا الغش المبيد للقيم والبشر والحضارات:

1 ـ (الاستيعاب الناقص) للمشكلات أو الأزمات. فهذا النقص يؤدي الى حلول ناقصة خادعة يترتب عليها واقع يصبح هو ذاته خميرة لأزمات أعتى. ويمكن التمثيل لذلك بتشخيص مخل وناقص ـ لمرض ما ـ يفضي الى مضاعفة المرض ذاته أو إلى أمراض أخرى أشد فتكا.. ومن نماذج الاستيعاب الناقص للأزمات العاتية: ان اوربا أدركت خطر النازية في وقت مبكر، لكن استيعابها للظاهرة كان ناقصا بدرجة مروعة. ولقد باءت اوربا بجرائر هذا النقص في الاستيعاب، ومن هذه الجرائر: الحرب العالمية الثانية التي هلك فيها عشرات الملايين من الناس ودمرت خلالها مدن وصناعات لا حصر لها.. والنموذج الثاني للاستيعاب الناقص هو: ان العرب قد احسوا بخطر الاحتلال الصهيوني لفلسطين، ولكن الاستيعاب لأبعاد هذا الخطر كان هزيلا باهتا ناقصا، وقد انبنى على هذا النقص: أزمات متلاحقة: عسكرية وأمنية وسياسية ضربت عافية العرب ولا تزال تضر بها، وستظل تضر بها في المستقبل.. وليست تجدي كلمة (لو) ـ ها هنا ـ فإن (لو) لا تسترجع الأحداث، ولا تبدل حركة التاريخ.. والنموذج الثالث هو زوال الاتحاد السوفيتي.. من قال: إن الاتحاد السوفيتي لم يك يشعر بالأزمة المحيقة به ـ قبل سقوطه ـ؟.. فهناك مؤشرات عديدة كانت توكد ان القادة السوفيت شعروا بالأزمة وتحسَّسوها.. ومن هذه المؤشرات كتاب (إعادة البناء) لميخائيل جورباتشوف ـ آخر رئيس سوفيتي ـ، لكن الاتحاد تعرض للكارثة الماحقة النهائية بسبب (الاستيعاب الناقص) للأزمة التي خنقته خنقاً: انتهى بلفظ أنفاسه الأخيرة.. والنموذج الرابع ـ الماثل ـ هو: الاستيعاب الناقص للأزمة المالية الاقتصادية الأمريكية (التي غدت أزمة عالمية بمقتضى تداخل الاقتصاد الأمريكي مع اقتصادات العالم).. لا شك في أن هناك استيعابا ما للأزمة، بيد انه استيعاب ناقص لدرجة الفجيعة الحضارية، ولا شك ـ أيضا ـ في ان هذا الاستيعاب الناقص ستنشأ عنه حلول ملوثة بالكبر السياسي، والتحجر الفكري، والعمى الاستراتيجي، والرعب الصاعق من (الجديد البديل) ـ أي البديل للعقم الرأسمالي في النظرية والتطبيق ـ.

2 ـ الصورة الثانية من صور (الغش الإرادي في أدوية علاج الأزمات) هي: تعويم الأزمة في محيطات من التضليل السياسي والإعلامي المبرمج.. وهذا ليس احتمالا متوقعا، بل هو سلوك دخل في دائرة التطبيق، فقد خرج فلاسفة التضليل الدولي من السياسيين والإعلاميين ودراويش الرأسمالية والعولمة، خرجوا ليقولوا: (لا تجزعوا أيها الناس في هذا العالم، فهذه (كبوة) قد حصلت، وسيستأنف الحصان الرأسمالي ـ بعدها ـ ركضه وعدْوه من جديد بأحسن مما كان!!، ونحن ننصح بعدم الانهماك في البحث عن الأسباب البعيدة لأن الأمر أهون من أن يتطلب ذلك).. ويبدو أن هؤلاء الفلاسفة قد تخصصوا في (تجهيل) البشرية بالأسباب الحقيقية للأزمات. فيذكر أولو العقول والضمائر: كيف ناضل هؤلاء الفلاسفة ـ المتعددو الجنسيات ـ في سبيل حرمان الوعي البشري من التعرف على الأسباب الحقيقية للإرهاب ـ بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 ـ وحاولوا ـ بكل ثقافتهم وفنونهم ووسائلهم الإعلامية ـ أن يفسروا ما حدث بأنه (كراهية لحضارة أمريكا وحريتها ونموذجها). وقد كان من عوامل الانحراف الكبير، والفشل الهائل في مكافحة الإرهاب: الابتعاد والتضليل المبرمج عن البحث عن الأسباب الجوهرية لهذا الوباء: (الفكري والأمني والسياسي والاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي)، أي الوباء ذي الأسباب المتعددة والمتنوعة.

3 ـ الصورة الثالثة من صور الغش الإرادي في أدوية علاج الأزمات هي (القاء المسؤولية على الأغيار ـ الذين لم يصنعوا الأزمة)، بل أصبحوا من ضحاياها.

إنهم ـ بصراحة ـ يريدون فرض تعاستهم علينا، وترحيل خيبتهم إلينا، وتلمظ شهواتهم على ثرواتنا.

كيف ذلك؟.. مثلا: في مقال كتبه هنري كيسنجر ـ بالاشتراك مع أستاذ الاقتصاد بجامعة هارفرد: مارتن فيلوشتاين ـ رحّل هذان الشخصان تعاسة وخيبة بلادهما إلينا فقالا: «إن دول أوبك ستحصل خلال العام الحالي (2008) على ما قد يصل إلى ترليون دولار ـ (روح الكلام تنغل بالحسد) وانه لكي تتجنب الدول الغربية المستوردة استمرار تعرضها لفرض دول أوبك أسعارا مرتفعة للنفط من خلال التلاعب «!!!» بالعرض، فإن عليها أن تقلص اعتمادها على النفط المستورد، وان تطور استراتيجية لمواجهة التلاعب بالسوق، وكذلك لتجنب قيام دول أوبك باستعمال أرصدتها المالية الكبيرة للابتزاز السياسي والاقتصادي.. ان تراكم هذه الثروات في دول ضعيفة يجعلها عرضة لاطماع جيرانها الاقوياء، كما انه سيعطيها قدرة غير متناسبة للتأثير في الشؤون الدولية، مما يشكل خطرا يتمثل في انتقال الثروة من الغرب الى دول الخليج!! وبعد تصوير هذا الخطر العالمي لأموال أوبك ولا سيما المال العربي، تضمن المقال تلميحات الى انه يتعين على الدول الغربية ـ بقيادة أمريكا ـ ان تتكتل ضد ابتزازات أوبك وضد ثقلها المالي الدولي ـ الذي لا يتناسب مع حجمها وحضارتها ـ أن تتكتل وأن تفرض ما يشبه (الوصاية) على هذه الثروات التي (تهدد) استقرار العالم وأمنه وتوازنه الاقتصادي.. هكذا تُرحَّل الأزمة الامريكية إلينا.. وهكذا تفسر الازمة تفسيرا مضللا يبعد الوعي والعقل عن أسبابها الحقيقية (الأمريكية) وهي أسباب شرحها بول كندي في كتابيه (صعود الدول العظمى وهبوطها) و(الاستعداد للقرن الواحد والعشرين) وشرحها زبغنيو بريجنسكي في كتابيه (خارج السيطرة) و(رقعة الشطرنج) ان الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي ليس عدوا لأمريكا، بل هو صديق حميم لأمريكا، وهو كذلك ليس اشتراكيا، بل من اليمين الرأسمالي، وهو نفسه رد الأزمة الامريكية إلى أسبابها الجوهرية الجذرية فقال: «إن الأزمة عميقة، وان النظام المالي العالمي كان على وشك كارثة، واننا في حاجة الى اعادة بناء النظام النقدي والمالي العالمي من جذوره. ففكرة وجود أسواق بصلاحيات مطلقة دون قيود، ودون تدخل الحكومات هي فكرة مجنونة. وفكرة ان الاسواق دائما على حق هي فكرة مجنونة أيضا».. ووزير المالية الألماني بير شتاينبروك من صميم النظام الرأسمالي ـ نظريا وتطبيقيا ـ، وهو لم يسبب الأزمة بـ (تراكم الثروات العربية النفطية) ـ كما فعل كيسنجر ذو الحنين الجارف الى عهود الاستعمار والوصاية على ثروات الأمم ـ ولكن الوزير الالماني المختص قال ـ بوضوح وأمانة ـ: «إن المسؤولية تقع على عاتق الولايات المتحدة فهي تقود استراتيجية انجلوسكسونية لتحقيق أرباح كبيرة ومكافآت هائلة للمصرفيين وكبار مديري الشركات والعاملين في البنوك الاستثمارية والساسة في نيويورك وغيرها.. والعالم لن يعود أبدا الى ما كان عليه قبل الأزمة، والولايات المتحدة ستفقد مكانتها كقوة عظمى في النظام المالي العالمي».. والموقف العملي المطلوب ـ الآن.. وليس غدا ـ هو:

أ ـ تصعيد درجات الوعي السياسي والاقتصادي والأمني لأجل الاستيعاب الكامل للأزمة وتداعياتها، وهو وعي يوجب الاحتراس من المضللين المحليين.

ب ـ ان تتأهب الشعوب والحكومات للدفاع عن ثرواتها ومعايش ذراريها، فإن فلاسفة الاستعمار صرحوا بالوصاية على هذه الثروات. ونقصد بالتأهب للدفاع ـ ها هنا ـ المباشرة الناجزة لسياسات ووسائل واجراءات فاعلة وشجاعة تكفل ـ باقتدار ودهاء ـ حماية الثروات الوطنية ـ المالية والاقتصادية ـ من التلاعب والأطماع والارتباطات (الميكانية) التي تبددها وتعمقها: كلما ضرب زلزال: اقتصادات الآخرين وأموالهم في هذه الصورة أو تلك: الآن وفي المستقبل.