التفاوض مع طالبان

TT

أكد الرئيس الافغاني حميد قرضائي ما تناوله العديد من الصحفيين والصحفيات خلال الأيام الأخيرة، بشأن اتخاذ خطوات حثيثة للتفاوض مع الطالبان لأول مرة منذ سقوط نظام العصور الوسطى في كابول قبل سبع سنوات.

التطور الذي يدعو للتفاؤل ـ الحذر طبعا ـ ليس لمجرد ان تحقيق الاهداف الاستراتيجية بسبل اخرى غير الحرب هو الاسلوب الافضل والأرقى فحسب، بل لانه ايضا يعكس تغيرا في التفكير الاستراتيجي لكل الاطراف المعنية، كما يشير الى بارقة امل جديد في امكانية تغيير اكثر الاطراف الاسلامية التقليدية تشددا، وتنامي احتمال عزل الاقليات المتطرفة في حلقات ضيقة منكمشة تهمش دورهم تماما وتدفعها الى ارض ما لا يستحق الذكر.

قال الرئيس الافغاني انه طلب من العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز ان تتوسط المملكة لتبحث عن اطراف يمكن الوثوق بهم لتولي هذه الاتصالات وعرض الشروط والتعرف على وجهات نظر الطالبان.

ووجه قرضائي النداء الى الملا محمد عمر ـ الذي ناداه بلقب اخي الافغاني ـ زعيم حركة الطالبان، يذكره بانه افغاني اولا وعليه ان يفكر في العودة لكابول للاشتراك في بناء وطنه.

ونشاط السعودية في الوساطة لم يعد سرا، بل كان مستمرا لفترة ليست بالقصيرة وهي، من النواحي العملية والاعتبارية والتاريخية، تعتبر الوساطة الاكثر مناسبة من وساطة اي طرف آخر.

فخادم الحرمين يحظى باحترام وتقدير لا يقارنان باي شخصية معاصرة بالنسبة للمسلمين على مستوى العالم، فهو راعي وخادم اقدس مقدسات المسلمين قاطبة، ولذا فكلمته ومواقفه، لها وزن لا يضاهيه وزن آخر.

من ناحية اخرى لا يزال للمخابرات السعودية والديبلوماسية السعودية وسائل اتصالها القوية مع مختلف حركات وجماعات العالم النشطة. فالطالبان حركة نشأت وقويت على ظهر الجماعات التي عرفت بالمجاهدين في نهاية الحرب الباردة، لمقاومة الحكومة الافغانية المدعومة من السوفييت ومحاربتهم هناك. وليس سرا ان الدعم والتمويل السعودي استخدمه الملا عمر في انشاء المدارس ودعم حركته (كلمة طالبان مشتقة من طلاب المدارس الاسلامية باشراف الملا عمر)؛ وبالطبع فان ملفات المخابرات السعودية هي الاكثر ثراء بالمعلومات والتفاصيل عن الحركة، وعن اتجاهات ونوعية الاشخاص فيها.

وليس من المعقول مثلا تصور ان حركة الطابان هي نسيج واحد متناسق مماثل، خاصة وانها حركة سرية، مختبأة في كهوف منطقة وزيران ومشرذمة. وبالتالي فهناك المتشددون الذين سيعتبرون فكرة التفاوض كفرا بتعاليم الملا عمر، وخيانة لما يرونه جهادهم المقدس. وهناك البرغماتيون الذين يرون انه من غير المنطقي توقع الحاق الهزيمة بحكومة قرضائي وحلفاء يمثلون المجتمع الدولي، خاصة وان غالبية مسلمي العالم ضاق صدرها بحركات من نوع الطالبان.

الديبلوماسية السعودية طبعا بامكانها عمل هذا الفرز لتحديد الاطراف التي يمكن الخروج بنتائج مقبولة معها في حالة التفاوض، واستبعاد الاطراف التي لا يرجى فائدة منها.

تقارير المخابرات الغربية، والاقليمية وعدد من البلدان الاسلامية، تشير بالفعل الى اصابة حركة الطالبان بالارهاق الشديد. فمنذ سقوطها المدوي في نوفمبر 2001، وهي مطاردة وملاحقة في موقف الدفاع فقدت تماما زمام المبادرة وهي في حالة هروب وفرار مستمرين.

صحيح انها نفذت عمليات ارهابية انتحارية في مدن افغانية، بما فيها كابول، وقامت بعمليات انتقامية بشعة من مدرسين واسر ترسل بناتها للتعليم، وقامت بعمليات قطع طرق للقوافل، الا انها غير قادرة على تدبير وتنفيذ هجوم مضاد منظم يمكنها من الاستيلاء على مدن ومراكز افغانية استراتيجية تستطيع الاحتفاظ بها واقامة حكومة مؤقته فيها.

ومن ثم فان الجناح الذي يميل للدهاء السياسي في حركة طالبان، سيرحب طبعا باي مبادرة تمنح الحركة نوعا من الاعتراف شبه الدولي. فبدأ مفاوضات مع الحكومة الافغانية، يعني اعتراف الاخيرة بحركة الطالبان كقوة سياسية اما أن تشارك في حكومة ائئتلافية او تخوض الانتخابات.

البلدان المشتركة في الوساطة كباكستان مثلا سيعني جلوسها الى المائة نفسها اعترافا، كما انه في حالة رعاية السعودية للمفاوضات ستضفي شرعية على الحركة بين الامم الاسلامية.

طبعا هناك اصوات ستعارض مجرد فكرة المفاوضات مع الطالبان، خاصة في بلدان مثل السعودية، وباكستان، حيث فقد الابرياء ارواحهم من ارهاب القاعدة، الحليف الاول للطالبان والتي عاشت في كنف الطالبان، عندما كانت الحكومة السائدة في افغانستان. كما ان قسما كبيرا من الراي العام الامريكي لا تزال ذكرى 11 سبتمبر عالقة بذهنه، سيعارض. الراي العام البريطاني، سيسهل اقناعه، لان تجربة التفاوض مع منظمة الجيش الجمهوري الايرلندي التي ادت للسلام في ايرلندا الشمالية، حية وماثلة في الذهن البريطاني.

المعارضون يمكن اقناعهم بالجائزة التي يمكن احرازها من بدأ المفاوضات مع الطالبان.

اولا يمكن شق الحركة، المرهقة حاليا. فالرئيس قرضائي يعرض فكرة العفو عن الطالبان، بمن فيهم الملا عمر ـ وان كانت المعارضة من الشعب الافغاني الذي ذاق الامرين اثناء حكم طالبان ستكون الاقوى. ايضا عرض المفاوضات سيضع الملا عمر امام اختبار نوايا حقيقي، هل هو وطني افغاني يؤمن بالخير لبلاده، ام ان العنف والجبروت (تحت اسم الجهاد) اصبح هو الغاية وطريقة الحياة لا الوسيلة؟

هل سيقبل عرض قرضائي ويثبت ولاءه لامته الافغانية، ام يقول «طز» في افغانستان، ويثبت انتماءه لايديولوجية الشر كالملا المصري مرشد جماعة الاخوان عندما سقطت عنه ورقة التوت بقوله «طز في مصر»؟

فسقوط الملا عمر وزملائه من الجناح المتشدد في اختبار شروط التفاوض سييجهز على ما بقي من شعبية له ويؤدي الى انقسام عنيف في الحركة.

اما قبول التفاوض، فربما ينجح في نهاية الامر الى عزل عصابة القاعدة ومجموعة الارهابيين من المقاتلين الاجانب الذين يعيشون في حماية الطالبان وبين قبائل البشتون. هذا طبعا بشرط ان يقدم التحالف الديموقراطي الغربي السعودي ثمنا مغريا للطالبان، خاصة وان اسامة بن لادن والقاعدة يقدمان اموالا طائلة لدعم الملا عمر وحركته.

التفاوض طبعا سيستغرق وقتا طويلا، قد يمتد لسنوات، لكن يجب وضع شروط واضحة امام الطالبان، بان اي اتفاق لن يتضمن عودتهم للحكم، او حتى اشتراكهم في حكومة «وحدة وطنية» من دون خوض انتخابات حقيقية ديموقراطية. كما يشترط تخليهم تماما عن دعم الارهاب والارهابيين، والايمان بالديموقراطية وحكم القانون كاسلوب حكم واضح، ولا يعتبرون الديموقراطية مجرد وسيلة لوصول للحكم، كما فعل هتلر والحزب النازي في المانيا في الثلاثينات؛ او يرون الديموقراطية «قبقابا يدخلون به الحمام لقضاء الحاجة» مثلما ينظر الاخوان المسلمون للديموقراطية.

كما تتضمن المفاوضات قبول الملا عمر، وحركة الطالبان باقتصار دورهم على نشاط اجتماعي شأنهم في ذلك شأن اي جمعية او حزب، ويعترفون بالدولة المدنية وليس نظام الامارة الاسلامية، اي لا يحملون سلاحا، ولا يتدخلون في شؤون الناس بفرض طريقة الملبس والمأكل والمشرب ونظام الحياة.