طريق باكستان

TT

في العشرين من سبتمبر (أيلول) الماضي، وقع هجوم إرهابي ضد فندق ماريوت الواقع في أكثر مناطق العاصمة الباكستانية، إسلام أباد، من حيث صرامة الإجراءات الأمنية، مُوقعًا خسائر كبيرة في الأرواح وقدراً غير مسبوق من الدمار، فقد قضى في التفجير ستون شخصًا من بينهم سفير وأجانب، نحبهم، إلى جانب إصابة أكثر من مائتين وستين بعضهم حالته حرجة. وقد احترق الفندق كله وأحدثت السيارة الملغومة التي كانت تحمل متفجرات تزن ستمائة كليوغرام، حفرة بعمق 24 قدمًا في مدخل الفندق. كما لحقت بالمباني المحيطة وموقف السيارات القريب من الفندق أضرار كبيرة، في الوقت الذي ارتجت فيه العاصمة من موجة الصدمة.

ووصف البعض الحادث على أنه 11 سبتمبر باكستان، فالهجوم كان متزامناً مع سفر الرئيس آصف علي زرداري إلى نيويورك لإلقاء كلمته أمام الاجتماع السنوي للجمعية العامة للأمم المتحدة.

والتساؤل الذي يطرح نفسه الآن: ما الرسالة التي أراد الإرهابيون توصيلها عبر ذلك الهجوم الانتحاري؟

لقد قدم الإرهابيون أدلة على فعاليتهم، وأنهم لا يزالون موجودين بقوة رغم العمليات العسكرية الكبيرة التي تشن ضد قواعدهم ومعاقلهم في مناطق سوات وباجور والمناطق القبلية الخاضعة للإدارة الفيدرالية. كما أظهرت الهجمات قدرة تلك الجماعات على اختراق أهم المناطق الحيوية بالعاصمة في يوم يشهد ترتيبات أمنية مكثفة، وأنها دليل على ضعف الترتيبات التي أعدت لدى إلقاء الرئيس خطابه أمام الجلسة المشتركة للبرلمان.

يذكر أن فندق ماريوت يقع داخل المنطقة الأمنية بالغة التحصين، وعلى بعد مائتي ياردة من مبنى البرلمان. ومن خلال الهجوم، أثبت المتطرفون عزمهم الواضح وتصميهم على تحدي الحكومة الديمقراطية، إذا ما استمرت في انتهاج نفس السياسة والاتفاقات التي تبنتها حكومة بيرفيز مشرف مع الولايات المتحدة.

وازدادت المشكلة تعقيداً بانتهاك القوات الجوية الأميركية المجالَ الجوي الباكستاني بصورة متكررة رغم الاحتجاجات التي تقدمت بها الحكومة الباكستانية والتصريحات الجريئة لرئيس هيئة أركان الجيش الباكستاني، أشفق برفيز كياني، والذي هدد بالرد ما لم تتوقف تلك الغارات عبر الحدود الباكستانية ـ الأفغانية. بيد أن تلك الهجمات لم تتوقف بالرغم من تأكيدات كبار السياسيين والقادة العسكريين الأميركيين على احترام سيادة الأراضي الباكستانية. واقع الأمر أن هناك حربين تدوران في آن واحد داخل نفس الميدان: الأولى هي معركة القوات الباكستانية ضد المسلحين والتي نجم عنها الكثير من الخسائر من كلا الجانبين. وأسفرت عن نزوح ما يقرب من نصف مليون شخص من المناطق التي يدور فيها القتال إلى المعسكرات التي أنشأتها حكومات الأقاليم، والحرب الأخرى هي حرب القوات الأميركية عبر خط ديوراند ضد تنظيم القاعدة وحركة طالبان الأفغانية، حيث تعتقد القوات الأميركية أنها تتخذ من الأراضي الباكستانية مخبأ وملاذا آمنا لها. وإلى الآن لم تتمكن الولايات المتحدة من إصابة أهداف ثمينة ولم تقتل سوى النساء القرويات والأطفال الأبرياء.

وعلى ما يبدو، فإن الهدف الرئيس من الغارات الأميركية على المناطق القبلية الباكستانية مواصلة الضغط على الحكومة الديمقراطية لمنع أي تراجع متسرع عن السياسة السابقة دون التوصل إلى تفاهم جديد. ومن المتوقع أن تستمر تلك الهجمات بل وربما تزداد كثافتها حتى إقرار حكومة جديدة في واشنطن في أعقاب الانتخابات التي ستجري في نوفمبر (تشرين الثاني) 2008. بيد أن تلك اللعبة تنطوي على مفارقة واضحة، ففي بداية الأمر طلبت الولايات المتحدة من باكستان تقديم يد العون لها في حربها على الإرهاب في أفغانستان. وأصبحت باكستان دولة المواجهة الأولى ودولة حليفة من خارج الناتو تتمتع بشراكة استراتيجية مع الولايات المتحدة. وشهدت المرحلة الثانية طلبات لا تتوقف من قبل الولايات المتحدة تطلب من باكستان القيام بالمزيد، لكن تلك المرحلة جعلت موقف الولايات المتحدة يتغير من ناحيتين؛ الأولى: تم إعلان حزام البشتون الواقع على خط ديوراند منطقة قتال بعينها يمكن استهدافها من جانب القوات الأميركية وقوات الناتو دون قيد، الأمر الذي لاقى اعتراضاً شديداً من إسلام أباد. والأمر الثاني والذي ينطوي على مفارقة أكبر أن الولايات المتحدة تزعم الآن أن وحدة باكستان مهددة من قبل المتطرفين الذين يعملون داخل أراضيها، وكذلك الذين يستغلون الأراضي الباكستانية في شن هجمات ضد دول الجوار، وبطبيعة الحال لا تزال الولايات المتحدة راغبة في مساعدة باكستان على خوض تلك الحرب من أجل البقاء. ويبدو أن الأدوار تبدلت ففي الماضي طلبت الولايات المتحدة مساعدة باكستان أما الآن فقد حان الوقت لكي تسعى باكستان إلى طلب المساعدة.

يذكر أن موهاتراما بي نظير بوتو كانت قد عادت إلى باكستان من منفاها الاختياري مع وعد بمحاربة المتطرفين بقوة أكبر من بيرفيز مشرف، غير أنه بعد وفاتها المفجعة، لاحظ حزب الشعب الباكستاني تنامي نفور الرأي العام من الحرب، وعليه، بدأ الحزب يدافع عن السلام مع المتطرفين مثل كل الأحزاب الأخرى. وكانت وتيرة التفجيرات الانتحارية متسارعة في باكستان، لكن المتطرفين خفضوا من حدتها قبيل الانتخابات التي أقيمت في فبراير (شباط) 2008 وقصرت عملياتها في الإقليم الحدودي الشمالي الغربي. غير أن الانتخابات مرت بسلام في كل الأراضي الباكستانية حتى في منطقة القبائل ذاتها التي تعد معقلاً للمقاتلين. واستمر الهدوء في الهجمات الانتحارية لعدة شهور قليلة بعد الانتخابات وأعلنت الحكومة الديمقراطية استراتيجية ثلاثية الأبعاد للتعامل مع التطرف. أولاً، كانت هناك جهود بصدد الحدوث لتحقيق السلام مع المسلحين، وتبعتها أنشطة متطورة قوية لنيل حرب العقول والقلوب بالنسبة للأفراد، أما استخدام القوة إذا ما تطلب الأمر، فكان سيستخدم كملاذ أخير إذا ما فشلت كل السبل. كما أعلنت الحكومة الإقليمية أيضًا في الإقليم الحدودي الشمالي الغربي عن عزمها القيام بمحاولة جادة لإنجاح جهود السلام، وبدا أن المسلحين يتابعون تلك التطورات بابتهاج وقدموا مطالب صارمة في مفاوضات السلام مع الحكومة الإقليمية. ومع ذلك، ظلت كل جهود البدء بالسلام متمركزة في القليل من المناطق وبمدى وأهداف محدودة للغاية؛ ولم يكن ممكنًا لهذا الأمر أن يستمر لمدة طويلة أيضًا. ونُسبت إلى الانتهاكات والاعتداءات الأميركية على سيادة باكستان حصة من ضعف النجاح في تحقيق السلام. واستمر التوقف في شن الهجمات الانتحارية لحوالي أربعة أشهر، في حين أن كلاً من الحكومتين المركزية والإقليمية أعلنت أنه لا يمكن التسامح مع التطرف، وطالبت المسلحين بإلقاء أسلحتهم وتسليم أنفسهم بلا قيد أو شرط.

ومنذ ذلك الحين، تمت مباشرة العمليات العسكرية في سوات وباجور والمناطق القبلية الأخرى على مستوى غير مسبوق من الكثافة. كما عادت الهجمات الانتحارية من جديد وبقوة، وهذا ما اتضح في الهجوم على فندق ماريوت. وبيأس، تشعر الغالبية العظمى في باكستان أن الحكومة الديمقراطية من المحتمل أن تستمر في نفس السياسة غير الشعبية التي أنشأها واتبعها برفيز مشرف. فغالبية الشعب الباكستاني يشعر أن الوقت حان أخيرًا لمواجهة المسلحين. وعلى هذا الأساس، أصبحت الدولة منقسمة ومتشاحنة حول تساؤل إذا ما كانت تلك الحرب هي حرب باكستان أم لا؟ وبالفعل يُعتبر هذا التساؤل أكثر التساؤلات أهمية، كما أن الإجابة عنه ستوضح الطريق الذي سيتم انتهاجه. فإذا كانت هذه حرب باكستان، فإنه يتعين على الدولة كلها أن تخوضها، أما إن لم تكن تلك حرب لباكستان، فإنه يتعين إيجاد سبيل للمضي فيه بينما يتم تفادي المواجهة مع الولايات المتحدة، وفي الوقت ذاته، التوصل إلى تسوية سلمية لمعضلة المسلحين الناشئين بالبلاد. ولدى البحث عن سبيل للخروج من تلك الأزمة، فإن المعضلة الأولى التي يتعين على الحكومة معالجتها هي تكوين اتفاق وطني جماعي حول القضية، حيث يتعين على الفور استهلال النقاشات داخل البرلمان، بالإضافة إلى البدء في حوارات مباشرة مع زعماء الأحزاب السياسية الكبرى. وإذا ما كانت الحاجة تقتضي ذلك، فإنه يتعين تشكيل حكومة وطنية لإنشاء سياسة وطنية تتبناها جميع الأحزاب. كما يجب أن ينهض الساسة فوق جميع الأمور والقضايا الذاتية في السياسة ويفكروا في الصالح العام والمصلحة القومية للبلاد بدلاً من مصلحة الحزب. وسيكون انتهاج تلك السياسة بغض النظر عمن يحكم البلاد شرطًا أساسيًا لتحقيق النجاح. أما التراجع فلن يكون مثمرًا أثناء البحث لمخرج من هذه الحال. وهناك 3 سيناريوهات محتملة: وأي من تلك السيناريوهات يمكن تجسيدها واقعيًا، ولكن بالركون إلى ما سينشأ من المحادثات الوطنية. السيناريو الأول: يرتكز على استمرار سياسة مشرف والتي تتضمن استخدام القوة العسكرية الوحشية تجاه المسلحين، والإذعان إلى مطالب الأميركيين، ويعتبر هذا السيناريو الأكثر احتمالية نظرًا إلى موقف الحكومة الحالي. وأفضل نتائج تلك الطريقة من الممكن أن تسفر عن انتعاش اقتصادي، أما في حالة الإخفاق، فستكون العواقب وخيمة. فمن الممكن أن تتهاوى آثار القروض والمعونات، والاستثمارات الأجنبية، والصادرات المعززة، والتوازن الجيد في الأجور إثر الإحصاءات المكثفة للقتل وعمليات تهجير السكان من المناطق القبلية بالإضافة إلى التصعيد غير المسبوق في الهجمات الانتحارية، فضلاً عما سينشأ جراء هذا من تخريج رؤوس الأموال إلى الخارج، وانتشار البطالة، وارتفاع الأسعار إلى درجة لا يمكن تحملها. وعلى هذا الأساس، سيتقلص ويتقوّض التأييد الشعبي للحكومة سريعًا. وستكون المحصلة النهائية لهذا، ازدياد عبء الدين، بينما ستعتصر قبضة الإرهاب البلاد كاملة. أما السيناريو الثاني: فسيقوم على الاتفاق الإجماعي والشامل على مواجهة الولايات المتحدة إذا ما استمر انتهاكها لسيادة الأراضي الباكستانية، بالإضافة إلى توقف العمليات العسكرية الباكستانية ضد المسلحين بغرض تسوية الأمور والقضايا العالقة عبر السبل السلمية. وسيفضي هذا إلى أن تتمتع الحكومة بالشعبية والتأييد الكاملين داخليًا بكل تأكيد. مما سيحمل الهجمات الانتحارية على التوقف ولو بصورة مؤقتة على الأقل. ونتيجة لذلك، ستزيد الحرب على قوات حلف الناتو في أفغانستان، وسُيلقى بكل اللوم على كاهل باكستان بشأن ذلك. وأسوا ما في هذا السيناريو، الضغوط الاقتصادية الجمة التي لا يمكن تحملها، مقترنة بالتهديدات الرامية إلى إفقاد باكستان استقرارها. هل يمكن للدولة أن تصمد في وجه أزمة اقتصادية أخرى؟ إن الدول التي تحظى بدرجة عالية من الوحدة والاندماج الوطني يمكن لها أن تصمد في وجه مثل تلك الضغوط، فهل نحن بين هذا التصنيف في هذا الوقت من تاريخنا؟ وهذا هو الخيار الأقل احتمالاً.

أما السيناريو الأخير: فسيكون عبر الإعلام ومكانه بين السيناريوهين الموضحين آنفًا. ويقوم على أساس الارتباط مع كل من الولايات المتحدة والمسلحين. ومن المحتمل أن يكون هذا أفضل السيناريوهات المتاحة للوصول إلى مخرج وإيجاد طريق للمضي قدمًا. ومن الممكن أن تكون هناك الكثير من خطوط الدفاع في الترابط مع الولايات المتحدة. وأولاً يتعين على الحكومة الباكستانية أن توضح لأميركا أنها لن تظفر بالحرب على الإرهاب في أفغانستان بصورة منفردة. فلم يكن بمقدور قوات الناتو التماسك خلال الثماني سنوات الأخيرة من احتلالها لأفغانستان. كما أن توسيع جبهة القتال إلى المناطق القبلية في باكستان سيزيد من الصعوبات التي تواجهها قوات الناتو فعليًا. ثانيًا: يعبر الدعم اللوجيستي لقوات الناتو عبر الأراضي الباكستانية، وعلى هذا الأساس لا يمكن لقوات الناتو الاستمرار في انتهاك سيادة الأراضي الباكستانية وتتوقع في ذات الوقت استمرار الترتيبات الحالية. ثالثًا: تلقي الولايات المتحدة باللوم على باكستان بشأن انتقال المسلحين عبر الحدود متجهين إلى أفغانستان. وفي ذات الوقت، لم تظهر الولايات المتحدة ولا الحكومة الأفغانية احترامها لقدسية هذه الحدود، كما أنهما يميلان دائمًا لانتهاكها كيفما يشاء. ومن هنا، يعتبر الاعتراف وتعيين حدود خط الدوراند أمرًا ضروريًا لكلا الطرفين للقيام بخطوات فعلية لمنع انتقال المسلحين عبر الحدود.

* وزير الداخلية

الباكستاني الأسبق