الفلسطينيون في القاهرة: ماذا يعني الحوار الشامل؟

TT

تبدأ بعد أيام في القاهرة، لقاءات المسؤولين المصريين مع وفد حركة حماس للبت نهائيا في موضوع الحوار الفلسطيني والوصول به إلى صيغة اتفاق. لقد أمضى المسؤولون المصريون شهرين وأكثر في إدارة هذا الحوار مع اثني عشر فصيلا فدائيا. ولكن مع وصول وفد حركة حماس يكون الحوار قد بدأ. لأن ما حدث قبل ذلك من لقاءات، لم يكن حوارا إنما كان تجميعا للأصوات من أجل دعم تصور الرئاسة الفلسطينية للحل لكي يتم عرضه على حركة حماس، ثم القول لها بأن هذا التصور يمثل الإجماع الفلسطيني.

لقد بدأ الحوار برسالة أرسلها الرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى الرئيس المصري حسني مبارك تتضمن تصوره للحل المنشود، وخلاصته ما يلي:

1 ـ أن تتراجع حماس عن سيطرتها على الوضع في غزة.

2 ـ أن يتم تشكيل حكومة تكنوقراط، أو حكومة محايدة، تكون مقبولة من المجتمع الدولي، حتى يمكن من خلالها رفع الحصار عن قطاع غزة.

3 ـ أن يكون هناك إشراف عربي (قوات أو ضباط مستشارين) على إعادة بناء أجهزة الأمن الفلسطينية.

4 ـ أن يتم الذهاب إلى انتخابات رئاسية وتشريعية جديدة.

والذي حصل بعد هذه الرسالة، أن مصر أقامت فاصلا زمنيا، جاءت الفصائل الفدائية في إطاره واحدة بعد الأخرى، لتقول إنها توافق على خطة الرئاسة الفلسطينية. ومع انتهاء هذا الفاصل الزمني، جاء وفد فتح برئاسة نبيل شعث، ثم سيأتي وفد حماس بعد أيام، ليبدأ الحوار الحقيقي مع الطرفين المتخاصمين، واللذين هما الطرفين الفاعلين في السلطة الفلسطينية. وبهذا يكون الراعي المصري قد اختار تكتيكا يستطيع أن يقول من خلاله لوفد حركة حماس: هذه هي صيغة الحل المتفق عليها، فما هو موقفكم؟ هل ستقبلون رأي الأغلبية، أم سترفضون وتعارضون، وقد تتعرضون آنئذ للعزل والعقاب، حسب إشارات جامعة الدول العربية؟

هناك فلسطينيون كثيرون، ونحن منهم، يعتقدون أن مواصلة هذا التكتيك لن يؤدي إلى نتيجة إيجابية، وأن مسار المفاوضات سيبرز الحاجة إلى تكتيك آخر يقوم على خيارين:

الخيار الأول هو الإقرار بأن المشكلة القائمة هي بين حركتي فتح وحماس، وأن الحوار الحقيقي يجب أن يكون بينهما، حول موضوع قطاع غزة، ثم يلي ذلك حوار فلسطيني شامل، تناقش فيه القضايا الأخرى المختلف عليها، والتي تتعلق بالسياسة الفلسطينية التفاوضية مع إسرائيل، وبإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية حسب الاتفاق الموقع بين الجميع عام 2005، والمسمى باتفاق القاهرة.

الخيار الثاني: هو الإصرار على الحوار الشامل أولا، باعتبار أن الجميع مسؤولون عن الوضع، ولا بد أن يكونوا مسؤولين أيضا عن صيغة الحل. وهذه وجهة نظر ليست ضعيفة، ولا مستنكرة، ولها قوتها السياسية والمنطقية. ولكنها تطرح فورا سؤالا فلسطينيا هاما جدا حول من هم هؤلاء «الجميع» الذين لا بد أن يأتوا وأن يشاركوا في الحوار؟

لقد تمت الإجابة على هذا السؤال في الحوارات التي جرت بإشراف المسؤولين المصريين، وتمت ترجمة كلمة «الجميع» على أنها تعني الفصائل الفدائية الموجودة داخل إطار السلطة الفلسطينية. ولكن الكثير من الفلسطينيين يعتقدون أن هذه الترجمة ليست دقيقة وليست صحيحة، ويوردون هنا أسبابا عديدة:

سبب أول: أن ما يسمى الفصائل الفدائية، لم تدع كلها إلى حوار القاهرة. دعيت الفصائل المؤيدة للسلطة فقط.

سبب ثان: إن ما يسمى الفصائل الفدائية في الضفة الغربية وقطاع غزة، لم تعد بمعظمها فصائل ذات وزن سياسي أو شعبي، وأغلبها موجود بالإسم فقط، ويتغنى بتاريخ فدائي مجيد لم يعد يمتلكه، وجلهم يعمل على تأييد موقف السلطة ضد حماس من أجل البقاء في صورة الوضع فحسب. وأبرز دليل على ذلك أن ما يسمى الفصائل الفدائية لم تحصل في الانتخابات التشريعية الأخيرة على أكثر من 2% من أصوات الناخبين.

سبب ثالث: إن قوى فلسطينية سياسية واجتماعية، نمت في السنوات الخمس عشرة الماضية، ومارست حراكا سياسيا واجتماعيا دفع بها إلى الواجهة، وحولها إلى قوى معبرة عن الشارع الفلسطيني وهمومه. أبرزها القوى الشعبية العاملة في إطار حق العودة، والتي أصبحت قوة جماهيرية فاعلة في الدول العربية وفي دول الشتات الاوروبي والأميركي، بل إن لها وجودا فاعلا أيضا في الضفة الغربية وفي قطاع غزة، ولها وجود حتى في أوساط شعبنا داخل دولة إسرائيل. هذه القوى الاجتماعية كلها، لم تدع ولم تتمثل في حوارات القاهرة.

سبب رابع: هو تجاهل أعضاء المجلس الوطني الفلسطيني في الحوار الدائر. وهناك أعضاء موجودون في الأردن وفي سوريا وفي لبنان، لم يفكر أحد بمعرفة رأيهم في ما يجري. يضاف إلى هؤلاء قوى فلسطينية مستقلة ذات شأن، لها رأيها ولها موقفها، ولم تكن جزءا من الحوار الدائر.

وحين يكون الهدف إجراء حوار شامل، فإن التواصل مع هذه القوى كلها، وبخاصة القوى الجديدة منها، يصبح أمرا ضروريا حين يراد للحوار الشامل أن يكون فاعلا وليس شكليا. إضافة إلى أن الإصرار على الوضع الراهن، يطرح مسألة خطيرة، لأنه يحصر الحوار مع فلسطينيي الداخل (الضفة الغربية وغزة)، ويتجاهل الحوار مع الإطار الفلسطيني الشامل، وهو أمر يؤثر مستقبلا على الوحدة السياسية للشعب الفلسطيني، وقد يقسمه إلى داخل وخارج.

وكل هذا الذي عرضناه حتى الآن يتعلق بالشكل. والشكل على أهميته، لا يستطيع أن يلغي المضمون السياسي للحوار. وهناك في الحوار الفلسطيني بعدان للمضمون السياسي:

البعد الأول: هو الاتفاقات الفلسطينية الأساسية. الاتفاقات الداخلية، مثل اتفاق القاهرة حول إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية، ووثيقة الوفاق الوطني أو ما عرف باسم وثيقة الأسرى. وهناك الاتفاقات العربية مثل اتفاق مكة واتفاق صنعاء. إن هذه الاتفاقات تتضمن صيغا لتنظيم التحالفات الداخلية، كما تتضمن صيغا للعمل السياسي الفلسطيني، وهي كلها ليست مطروحة حتى الآن في حوارات القاهرة. ناهيك أن البعض ذهب ليعلن رفضه لها.

البعد الثاني هو بعد سياسي مباشر، إذ ثمة أسئلة فلسطينية كثيرة مطروحة حاليا: هل يستمر التفاوض مع إسرائيل أم يتوقف؟ هل لا يزال حل الدولتين ممكنا أم أنه انتهى واقعيا على الأرض بسبب المستوطنات والكانتونات؟ هل يتجه الفلسطينيون نحو حل الدولة الواحدة أم لا؟ هل يعود الفلسطينيون (جميعا) إلى سياسة مقاومة الاحتلال أم لا؟ وما هو نوع المقاومة المطلوبة، مقاومة بالسلاح أم مقاومة شعبية فقط؟ وفي حال التفاوض هل نواصل صيغة اتفاق مكة، حيث «يحترم» المعارضون الاتفاقات، وتتولى رئاسة منظمة التحرير الفلسطينية عملية التفاوض أم هناك حاجة للبحث عن صيغة أخرى. وما هي هذه الصيغة؟

إذا لم تطرح هذه القضايا للحوار، وإذا لم يتم الاتفاق عليها، فإن أي اتفاق ينجم عن حوار القاهرة سيبقى ناقصا، وقد يكون عرضة للتلاشي، عند بروز أي خلاف سياسي جدي. وليس من مسؤولية القاهرة بالطبع أن تجيب على هذه الأسئلة، ولكن من مسؤوليتها أن تدفع المتحاورين نحو العمل على تنفيذ اتفاقهم بإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية، وإعادة تشكيل المجلس الوطني الفلسطيني بصيغة جديدة فعالة، وربما منتخبة، بحيث يتولى المجلس درس هذه المسائل والإجابة عليها. ومن دون ذلك، ومن دون مشاركة القوى الفاعلة في الحوار والنقاش، فإن الأمور ستبقى مبتورة، وهو ما لا نتمناه أبدا، لا للفلسطينيين ولا لمصر العزيزة على قلوب العرب جميعا.

وهنا يميل البعض إلى تصوير الأمور بصورة توحي بأن المشكلة هي فقط بين فتح والسلطة الفلسطينية من جهة، وبين حركة حماس من جهة أخرى. ولكن المسألة ليست هكذا على الإطلاق، فقد ارتفعت أصوات كثيرة من داخل حركة فتح، ومن داخل الجناح المؤيد للتسوية، والمؤيد حتى لاتفاق جنيف المشؤوم، تقول كلاما من نوع الكلام الذي نقوله هنا. لنقرأ مثلا:

«في الأسبوع الماضي دعا قدورة فارس، أحد قادة تحالف السلام الفلسطيني، رئيس السلطة محمود عباس (ابو مازن) لوقف المفاوضات مع إسرائيل فورا. فارس هو أحد البارزين بين زعماء الجيل الوسط لفتح. قال ذلك بالذات في اجتماع عقدته قيادة «مبادرة جنيف» في تل أبيب. وقد ادعى بأنه لا يعقل أن يواصل أبو مازن الجلوس مع الإسرائيليين بينما يتواصل البناء في المستوطنات. وقال فارس: على عباس ورئيس الوزراء سلام فياض أن يقفا على رأس المظاهرات في المناطق ضد إسرائيل. على الرئيس أن يدعو منذ الآن إلى مسيرات برئاسته إلى المسجد الأقصى. وقال فارس: من دون تسوية سياسية ستندلع مواجهة من أكثر المواجهات التي شهدتها المنطقة عنفا، وسترتدي طابعا دينيا» (هآرتس 29/9/2008).

قدورة فارس ..... لم يدع إلى حوارات القاهرة.