«الصحوات» والحاجة جدلية متبادلة

TT

كانت هناك مسألة اساسية انتجت وبقيت مغذية للعنف لم يلتفت لها في السنين الاولى بعد التغيير، وحتى ان تم ذاك فانها لم تعالج بجدية، سواء من قبل الامريكان او الحكومات العراقية المتعاقبة، واعني بها الدوافع المادية والاقتصادية للتمردات والعنف في العراق سواء اخذ صورة مقاومة او جهاد او تحت تسمية ميليشيات نشأت لمقاومة محتل ثم انخرطت بمقاتلة المختلف الاخر، هذا الاهمال والتغاضي كان ذا كلف باهظة ومدمرة كان من الممكن تجنبها، نعم ولكن رغم هذه الكلف الكارثية فان للزمن كان يجب ان يأخذ مداه، حتى تتكشف البواعث المادية التي استبطنها الصراع والاقتتال في العراق والتي اخفيت وراء لافتات وطنية ودينية وجهادية، فالذين انخرطوا في العنف او تعاونوا معه او رحبوا به دوافعهم كانت مادية وبالتالي اخراجهم منه واستعدائهم عليه او تحييدهم لا يتم الا بتطمين هذه الحاجات، كون العنف اوجد فرص عمل ومصدر رزق للمنخرطين فيه في اجواء شحت فيها الفرص، وكذلك العنف خلق اقتصادا مافيويا تحالف معه واعتاش في ظله، بل انه حتى البيئة التي احتضنته كان ذلك بدافع استعادة سلطة مفقودة وبما تمثله هذه السلطة في بلداننا من ان القابض عليها يكون قابضاً على توزيع الثروة والمنافع، وهذا ليس اتهاماً متعسفاً لهؤلاء بل هو سبر واقعي لكنه الصراع، والا اذا اسقطنا العامل المادي كمحرك للصراع والعنف فكيف نفهم تحول هذه المجاميع من مقاتلة الامريكان الى متحالفة معهم وعاملة بامرتهم وقابضة منهم، كما ان هذا ليس تجريدا لطرف من القيم والمثل، كون حتى الطرف الاخر القابض على السلطة قد قام باستدعاء كل الخطابات الدينية والمذهبية والقومية لتحجب وتيسر الدوافع المصلحية، وجاء تقرير البنتاغون قبل ايام حول الحالة في العراق دقيقاً ومقرراً لذلك، عندما اثنى على تحسن الوضع الامني ولكنه اشار لطبيعة النزاع في العراق بانها لم تتغير في العمق، فهو نزاع بين مختلف المكونات على السلطة والموارد.

فلو بقينا في الجدوى الاقتصادية فان قوات الصحوة انتجت امناً واستقراراً وبكلف لا تزيد عن 30 مليون دولار اجور رواتبهم، وهو ما لم يتحقق للقوات الامريكية بانفاق ستة مليارات دولار شهرياً وبكلف اجمالية قدرت بـ600 مليار دولار انفقت للان في العراق، اما الجدوى السياسية فانها متعددة الجوانب، فظاهرة الصحوة وبرفقتها عوامل اخرى تضافرت معها جلبت وضعاً تفتخر به الادارة الامريكية وانقذت العراق من ان يكون مشروعاً فاشلاً يطيح بالزعامة الامريكية في العالم على يدي اسوأ عدو خرجت امريكا لمقاتلته بعد 11 سبتمبر، ومنعت من ان يكون الناتج العرضي لتدخلها في العراق ايجاد ملاذ آمن لقوى الارهاب وتوفير قاعدة خلفية لها لتصدير اللااستقرار لمنطقة على توازنها يتوقف استقرار نبض العالم، فضلاً عن ايقاف الجرح النازف للديمقراطية المراد انجازها في العراق والذي لو استشرى كان ليجهز عليها ويحول العراق الى حرب الكل على الكل، بجانب ان قيام الصحوة بتأمين المناطق المصدرة للتهجير سواء الى مناطق النزوح في الداخل او الخارج والذين شكلوا ضغطاً على الضمير الانساني لاستيعابهم، وبالتالي فان نجاح الصحوة وقوات الامن في تأمين مناطقهم واعادتهم يرفع او يخفف من العبء عن دول اللجوء التقليدي الذي تقذف لها المناطق المضطربة بموجات مواطنيها.

اما لجهة الحكومة العراقية التي ان كانت لها محدداتها في استيعاب الصحوة لكون ذلك يزيد من عسكرة المجتمع وما يضيفه ذلك من اعباء تتمثل بجلب زيادات على قوى امن هي زائدة اصلاً عن المعدلات المعروفة في العالم، وهذا ما يشكل استنزافاً للموارد على حساب الاولويات المدنية، وايضاً للخشية من اختراقها من القاعدة، وللمأزق الاخلاقي الذي سيتأتى عن منح شرعية وغطاء رسمي لمن انغمسوا في العنف وكمكافأة لمن نقلوا البندقية من كتف الى كتف آخر.

ولكن الصحيح ايضاً ان كلفة الانفاق على الصحوة تظل زهيدة ولا تقاس بقيمة ايقاف تدمير البنى التحتية، سواء تلك الناقلة للنفط ومشتقاته الى شبكات نقل وتوليد الطاقة الكهربائية ومن تأمين طرق كانت تحت رحمة جماعات السلب، وكلف ايقاف التنمية وطرد الاستثمار، فضلاً عن القيمة الاهم في جهدها في تحقيق الامن في مناطقها وطردها للقاعدة واسهامها بتوفير اجواء عودة اللحمة المجتمعية التي تصدعت، وتمهيدها لظروف عودة من هجروا، اما الخشية من كون بعضهم قد انغمس في العنف فانه طالما تم التغاضي عن امراء الحرب واجلسوا في العملية السياسية وانتفعوا بامتيازاتها، فمن باب اولى ان يسري ذلك على من غرروا من معيتهم، والا سنهلك كما انبأنا عليه الصلاة والسلام اذا ما اقمنا الحد على الضعيف وتركنا القوي، وهذه ليست دعوة لاسقاط العدالة ولكن اذا ما تزاحمت العدالة مع الاستقرار فان الاستقرار يقدم اذ هو الضامن لاقرارها بعد ذاك، فضلاً عن ان ادماج المؤهلين من الصحوة في القوى الامنية وتعيين المتبقين منهم في الوظائف المدنية او بعقود متوسطة حتى يستقر البلد وتعود له فرص النماء الجاذبة للجميع، ولكون الغالبية العظمى من قوات الصحوة هم من السنة فان ادماجهم سيزيل شكاوى السنة من عدم التوازن في الجيش والشرطة والذي كان ثمرة قصر نظر قياداتهم الدينية.

واخيراً ان الحكمة تقتضي ادراك ان الامن هش ومن العبث المجازفة بالارتداد عليه بترك عشرات الالوف حاملة للسلاح وبلا افق وبلا موارد، حتى ان كان لاحتوائهم كلف لكنها بالقطع اهون من اهداء ولو عشرهم للارتداد للعمل مع القاعدة، متبصرين بمقولة الصحابي الجليل ابي ذر «اني اعجب لامرئ يأتي داره ولا يجد قوت عياله كيف لا يخرج للناس شاهراً سيفه»، مدركين ان السياق مختلف ولكن الحكم يدور مدار العلة، والعلة هنا هي اقتران العنف والحاجة، لذا فواجب اية حكومة تنشد السلم المجتمعي ان تفكك هذه المتلازمة.