أنا حرة

TT

إذا سمع الكاتب طرفا من حديث تحول الكلام في مخيلته إلى مواقف وشخصيات تتحاور وإلى أحداث واحتمالات.

والسباح لا يرى شاطئا إلا وفكر في المسافة التي تفصله عن الشاطئ الآخر وكم من الوقت يحتاج لبلوغه سابحا. هكذا أرى رحلة الحياة. أراها مواقف ومعلومات وخيارات وبحرا يدعوني للسباحة إلى الجانب الآخر.

أنا وانت إذن نكتب مسيرتنا بأيدينا من دون أن نسأل كيف أو لماذا تعترض مسيرتنا تلك المواقف بالتحديد أو تلك الشخصيات التي نتأثر بها فنسلك مسلكا لم نفكر في سلوكه من قبل. وهذا البحر العظيم هو بحر التجارب الذي نرتمي بين أمواجه من دون أن نعرف هل يبتلعنا الموج أم ننتصر عليه.

قلة منا تدرك ان حرية القرار هي الوجبة التي نعدها بأيدينا وهي القوت الذي نغذي به أيامنا، فإما يزيدنا القوت الذي نختار صحة أو يزيدنا مرضا. فوق هذا وذاك هناك وعاء يحتويني ويحتويك وهو قدري وقدرك. القدر هو المنظومة الكبرى التي تبسط سلطانا لا سلطان معه. ولو فكر كل منا لتراءت له عشرات المواقف والاختيارات التي بدلته من حال إلى حال وكان القاسم المشترك بينها هو ان القدر فعل فعله، وليس أدل على ذلك من هذه الرواية:

قبل عشرين عاما استولت على شاب إنجليزي رغبة ملحة في عبور سور الصين العظيم عدْواً. لم يكن يشتغل بالسياسة ولم يكن يعرف من الصينية سوى عدة مفردات، ولكن تراءى له حلم قد يجعل منه بطلا عالميا. فإن نجح اصبح اول أجنبي يعبر السور العظيم الذي يزيد على ألفي ميل.

وعليها فانه استقال من وظيفته كمعلم وحمل القليل من المتاع والكثير من الأمل وسافر إلى الصين. وهناك تعرض للبيروقراطية وللبرد والجوع والعزلة. وظل يعدو ويعدو ويعدو حتى أدمى العدْو قدميه. تسول الطعام والمأوى ولم تفارقه ورقة كتب عليها اسمه ووطنه خوفا من أن يهلك فلا يعرف أهله مصيره.

فعل ذلك كله وهو موقن بأنه يمارس إرادة ذاتيه ولم يدر بخلده قط أنه يعدو إلى جوار السور العظيم لأنه على موعد مع القدر.

في أحد الايام التقى بفتاة صينية نظرت إلى ملابسه الرثة وسألته لماذا أتى إلى الصين. ولما أخبرها دهشت من إقدامه فصحبته إلى حديقة ولفتت نظره إلى اشجار الصفصاف وحقول الخيزران. وقبل ان تفارقه كان صاحبنا قد وقع في الحب. ولما عرض عليها الزواج رفضت بأدب.

وأنهى الشاب مهمته وهو يفكر في الفتاة. وعاد إلى بلده وهو يفكر فيها. ثم حمل متاعه مرة اخرى إلى الصين باحثا عنها بعد عام كامل من بداية مغامرته.

بحث عنها حتى وجدها. وحين عرض عليها الزواج هذه المرة قبلت ربما لأن إصراره أقنعها بصدقه.

هذه المغامرة تحولت إلى كتاب حقق رواجا كبيرا. وربما يعيش ذلك الرجل بقية عمره وهو مقتنع بأنه انتصر على العراقيل التي فصلته عن حلم البطولة وانه انتصر على ذاته في الحرب مع الجوع والبرد والعزلة.

وقد يموت وهو لا يدرك أنه استقال من عمله وتعرض لحر الصيف وبرد الشتاء وذهب إلى الصين لأنه كان على موعد مع القدر وأن فتاة صينية قدر لها ان تتزوج انجليزيا كانت بانتظاره على بعد عشرات الآلاف من الأميال.