هل تخلينا عن الملكية الفكرية للإسلام؟!

TT

«جوهرة المدينة»، رواية لم تصدر بعد لامرأة أميركية تدعى شيري جونز، لم أسمع بها من قبل طيلة عشرين عاما عشتها في الأوساط الثقافية بالولايات المتحدة، قيل إنها رواية تشوه تاريخ الإسلام في «كركبة» كلامية قدمت على أنها عمل أدبي. «جوهرة المدينة» نتاج متوقع في جو عام ساد أخيراً في الغرب، يظهر فيه بين الفينة والأخرى كتاب ورسامو كاريكاتير ومفكرون وسينمائيون وإعلاميون وسياسيون يستفزون المشاعرَ الأساسية لدى عموم المسلمين. يدَّعي هؤلاء «المفكرون» الغربيون فهمهم الكافي للإسلام بما يؤهلهم لنقده في صور مختلفة، وهم لا يمتلكون أهم مفاتيح معرفة الإسلام التي تمهد لفهمه ضمن سياقه الثقافي، وهي اللغة. يعرف القراء أنني من الليبراليين المتسامحين الذين يصعب استفزازهم فيما يخص حرية التعبير، ولكن ما يستفزني هنا هو دور المال العربي في تمويل جهل الغرب بالإسلام. من المتوقع أن يكون الغرب جاهلا بالإسلام، ولكن من غير المتوقع أن يمول المال العربي هذا الجهل، وهذا جوهر هذا المقال.

ولنبدأ بعدد المنح المقدمة من بعض الدول العربية أو بعض الأفراد العرب لدعم دراسات الإسلام في الجامعات الغربية. يقدر بعض هذه المنح بأكثر من عشرين مليون دولار للكرسي الواحد في الجامعات الغربية للدراسات الإسلامية. وإذا أحصينا المنح (العربية) المقدمة للجامعات الكبرى من هارفارد إلى جورج تاون إلى جامعتي أوكسفورد وكمبريدج البريطانيتين، فإنها تبلغ أكثر من 200 مليون دولار صرفت على برامج خصصت لدراسة الإسلام. وللأسف، فإن معظم هذه البرامج تعمق عدم الفهم، إن لم أقل إنها خطر على الإسلام، أكثر من كونها دعماً للفهم المتبادل. وهنا أتحدث من معرفة تامة، كأستاذ يدرس في تلك الجامعات، لا كهاوٍ أو صحافيٍّ يكتب تقريراً سريعاً عن أمر يعرف منه القشور فقط. إن أسوأ توظيف للمال العربي الذي يظن أصحابه بأنهم يخدمون ببذله رسالة الإسلام السمحة، هو تلك المنح إلى الجامعات والمعاهد الغربية لدراسة الإسلام. وهناك أسباب عديدة تدفعني إلى هذا القول الذي قد يكلفني غضباً كثيراً من أساتذة في الغرب، زملاء لي، لن يروقهم بالتأكيد نقد صريح كهذا قد يضيع عليهم فرصَ عمل وتمويلا مغريا لبرامجهم.

أول هذه الأسباب، أن القائمين على الدراسات الإسلامية في الجامعات الغربية، يشبه فهمهم للإسلام إلى حد كبير فهم المدرسين (الصعايدة) للغة الإنجليزية في زماني، ففي مدارس الصعيد كانوا يعلموننا كيف نفرق بين حرف «b» في اللغة الإنجليزية وحرف آخر مختلف تماماً هو «P»، بأنهما (زي بعض) إلا أن الأول «بي» خفيفة والثاني «بي» ثقيلة، مع أنهما حرفان مختلفان تماماً، لا ينطبق عليهما الترقيق والتفخيم في اللغة العربية، واللذان يقعان على الحرف ذاته فيغيران صوته. ما أريد قوله هنا، إن من يتصدون لدراسة الإسلام في الغرب لا يمتلكون المفاتيح الثقافية لفهم الإسلام. فتدريس الإسلام وتاريخه في كبريات الجامعات الغربية لا يخضع للمعايير الصارمة ذاتها التي يستخدمها الغرب في تدوين تاريخه وتفسيره. في الجامعات الغربية مثلا، لا يمكن لباحث لا يجيد اللغة الألمانية أو اللغة الفرنسية كأهلها، أن يكون متخصصاً في شؤون فرنسا أو ألمانيا، أما فيما يخص الإسلام فيكفي أن يكرر بروفسور ما عبارة «السلام عليكم» وبعض التعبيرات السياحية التي التقطها في زيارته لمصر أو الإمارات، ليعلن للملأ من دون خجل أنه خبير في الإسلام ومجتمعاته، وما صاحب ذلك من (موضة) دراسات الإرهاب. غياب المعايير الحاكمة للدراسات الغربية حول الإسلام هو وصمة عار في جبين تلك الجامعات العريقة، والتي من خلال معاييرها الصارمة في المجالات العلمية والفكرية المختلفة نجحت في تحقيق إنجازات باهرة. لو طبقت هذه الجامعات المقاييس ذاتها على الدراسات الإسلامية لكنا عرفنا الكثير عن تاريخ الإسلام بدلا من الدوران في حلقة التفاهات المفرغة لكثير ممن يدرسون الإسلام في الغرب اليوم. لقد دخلت معارك كثيرة في الجامعات التي عملت بها حول مسألة المعايير الحاكمة لمن يمكن أن يتخصصوا في دراسات الإسلام أو العالم العربي، ولم أفلح في كسب أيٍّ من تلك المعارك، ذلك لأنني لم أجد سندا، حتى من بعض الأكاديميين العرب والمسلمين أنفسهم، فمعظم البشر يفضل «أكل العيش» على المجابهة.

المشكلة تبدو أكثر إزعاجا وأشد استفزازية، عندما نعرف أن كثيراً من هؤلاء الأكاديميين الغربيين الذين يديرون برامج الدراسات الإسلامية، والذين يجهلون اللغة العربية التي نزل بها القرآن الكريم وهو أساس الإسلام كدين، يتم تمويل برامجهم بالمال العربي. العرب يتخلون عما يسمى الآن «الملكية الفكرية للإسلام» لتركه نهباً في أيدي مَنْ ليست لديهم الأدوات اللازمة للتعامل مع النص الإسلامي، سواء من حيث التراكيب اللغوية المعقدة التي تصعب حتى على أصحاب اللغة الأصلية فهمها من دون دراسة وتخصص، أو من حيث السياق الثقافي المرتبط بخصوصية الزمان والمكان. المال العربي يمول جهل الغرب بالإسلام بدعم هذه البرامج، نفخر بالاحتفالات المبهرجة التي تقيمها بعض الجامعات الغربية لعظماء القوم عندنا، تبهرنا حفلات الشاي وتسعدنا درجات «الدكتوراه» الفخرية، ونخرج من جيوبنا «شيكات» لتمويل الجهل الغربي فيما يخص ديننا وثقافتنا.

الأولى بهؤلاء المانحين العرب أن يخصصوا كراسيَّ للدراسات الإسلامية ويغدقوا أموالهم على الجامعات العربية التي تتحكم بشكل حقيقي في قيمة المنتج الفكري الإسلامي، فكثير مما يقال إنه اكتشاف في الغرب حول الإسلام هو أمر معروف وبديهي، ربما حتى لدى العوام، في البيئات الإسلامية. الأكاديميون العرب، هم نتاج الثقافة الإسلامية وهم الأدرى بسياقها الثقافي ولغتها، وهم بالتالي الأقدر على فهمها ونقدها الموضوعي ومن ثم تطويرها لا هدمها، إذا ما توفر المناخ العام المتسامح مع حرية الفكر.

جامعاتنا العربية في فاس ودمشق والرياض وبغداد والقاهرة وغيرها، هي القادرة على تقديم الثقافة الإسلامية في إطار إنساني يليق بها، وإخراج صورة المسلم من مأزقه الحضاري المعاصر. وهي، بلا شك، جامعات فقيرة تحتاج إلى دعم المال العربي. فجامعة هارفارد لا تحتاج أموالا عربية لدراسات الإسلام أو دراسات العالم العربي. ميزانية هارفارد، تبلغ 25.9 مليار دولار ويديرها الصديق محمد العريان، أكبر من ميزانية كل الجامعات العربية من المحيط إلى الخليج مجتمعة، وربما تعادل الدخل القومي لواحدة من أكبر الدول العربية.

المطلوب هو أن يكون المال العربي ذكياً، بأن يصرف في المكان الذي يخدمه لا في المكان الذي سيسيء إليه في النهاية. المطلوب أن يكون المال العربي سخيا على جامعاتنا لرفع مستوى أدائها وتمكين أكاديمييها من التفرغ الجاد لدراسة الإسلام وامتلاكهم لأدوات البحث العلمي وتنشيط حركة الترجمة لمنتجاتنا الفكرية الجادة، يحتاج هذا كله، بالتأكيد، إلى فضاء رحب للحرية الفكرية يضمن حركتها من دون تكفير وترهيب، في غياب هذا الفضاء يستحيل قيام أي بحث حقيقي، أساس البحث هو حرية السؤال، وهذه قضية مهمة أخرى تستوجب حديثا مطولا حولها في مقال قادم.

هناك تساؤل مهم أخير: من يدير المؤسسات الكبرى للمال العربي؟ نسمع كثيرا عن مؤسسات لدول أو شخصيات عربية تتبرع بالأموال للجامعات والمعاهد، وحتى لأفراد، للقيام بأبحاث ودراسات حول الإسلام أو العالم العربي، من يدير هذه المؤسسات؟ من يقنع المال العربي في كيفية صرفه علميا وفكريا؟ هل هم متخصصون وأكاديميون جادون يعرفون الشرق والغرب بمعاييرهما الأصلية الصارمة، أم أنهم مجرد أفراد تمرسوا في مجال العلاقات العامة، والأمر بالنسبة إليهم «بيزنس» خالص مائة في المائة، لا يأبهون بالدور الكبير الذي يمكن أن يلعبه المال العربي في خدمة قضايانا، بقدر ما يأبهون لعمولاتهم المغرية من الطرف الذي يتلقى هذا المال؟ تساؤل أعرف جيدا إجابته، ولكنه للإشارة والتنبيه.

«جوهرة المدينة»، وفيلم «فتنة» والرسوم المسيئة للرسول الكريم، وغيرها.. أعمال غربية فجة تدعي فهم الإسلام ونقده في أشكال عدة.. ولكن الخطورة الأكبر هي في تكريس ومنهجة عدم الفهم بالإسلام أكاديمياً ممن يدعون العلم في المؤسسات العلمية والجامعات الغربية الكبرى.. ويصرف على برامجهم وجهلهم من المال العربي.