غايتهم خدمة أوطانهم.. وهاجسنا تأكيد عشائريتنا

TT

كان السياسي والدبلوماسي الكبير أدلاي ستيفنسون، الذي عرفه العالم مندوباً دائماً للولايات المتحدة في الأمم المتحدة، من ألمع الساسة الديمقراطيين الأميركيين. وستيفنسون ابن عائلة سياسية لعبت دوراً بارزاً في تاريخ ولاية إيلينوي، حيث مدينة شيكاغو ثاني أعظم مدن أميركا. ولقد خاض انتخابات الرئاسة مرتين لكنه خسر في المرتين ضد الرئيس دوايت أيزنهاور عامي 1952 و1956 لأن أميركا كانت ما زالت منتشية بانتصارها الكبير في الحرب العالمية الثانية ومتحمّسة للتصدّي للشيوعية.. ولذا فضّلت أن يحكمها «جنرال» ـ مثل أيزنهاور ـ قليل الخبرة في السياسة على أن تسلس قيادها لسياسي ودبلوماسي محترف يفهم معنى الحوار والاعتدال العاقل.

في تلك الفترة مطلع الخمسينات، في عز فترة كابوس «المكارثية» البغيض، استخدم الجمهوريون في ماكينتهم الانتخابية لإسقاط ستيفنسون كل أسلحتهم الفتاكة في ترسانة «البروباغاندا» السلبية، فكادوا أن يخرجوه عن طوره، حتى قال فيهم مقولته الشهيرة:

«إذا كف الجمهوريون عن نشر الأكاذيب عنا، سنكون مستعدين للكف عن قول الحقيقة عنهم»

If the Republicans stop telling lies about us, we will stop telling the truth about them.

والحقيقة أن تفضيل الناخبين أيزنهاور على ستيفنسون لم يكن أول مرة، ولا آخر مرة، اختار فيها الناخبون التصويت لرئيس جمهوري متشدد بأغلبية كاسحة ضد منافسه الديمقراطي المعتدل، وانتهى هذا الرئيس في عداد أسوأ الرؤساء. فقد فعلوها بعد الحرب العالمية الأولى عندما انتخبوا وارين هاردينغ. وتكرّر الخطأ مع جورج بوش «الإبن» الذي هو اليوم في تصنيف غالبية الأميركيين أحد أفشل الرؤساء رغم أنهم جدّدوا له قبل أقل من أربع سنوات.

مؤدى القول إن الشعوب «ليست دائماً على حق».. بل كثيراً ما تكون على خطأ.

فالشعوب، مثل الإنسان الفرد، تسيء الفهم والظن، وتخطئ في تقدير الأمور، وتتخذ أحياناً قرارات كارثية. ولكن من حسنات النظام الديمقراطي، في الدول التي تطبّقه حقاً، أنه يوفر آلية تصحيح الخطأ من داخل مؤسسات السلطة وآلياتها. وقد شاهدنا خلال الأسبوع الماضي في الكونغرس الأميركي نموذجاً مهماً في تحمّل الساسة، ضمن مؤسسات السلطة في نظام ديمقراطي، مسؤولياتهم تجاه وطنهم وشعبهم.. ولو بعكس قناعاتهم الآيديولوجية.

فلم يكن سهلاً على عشرات الشيوخ والنواب الذين طالما جادلوا أمام عشرات الملايين من مواطنيهم مروّجين فضائل اقتصاد السوق، ومنتقدين تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية، أن «يبتلعوا» شعاراتهم ويصوّتوا صاغرين لصالح إقدام الدولة على إنقاذ اقتصاد حر من شطط «حريته» اللا مسؤولة.

لم يكن سهلاً على مَن ثرثر كالببغاوات على امتداد السنين بشعارات «إزاحة الدولة عن ظهور الناس» أن يوافق فعلياً على عملية «تأميم» ولو كانت مؤقتة.

هنا، في واشنطن، لجمت ضوابط «دولة المؤسسات» شطط الديماغوجية الاقتصادية والسياسية والشخصانية، لكن الوضع مختلف في الدول المتخلفة، التي نصفها بالنامية تهذباً حيث لا ضوابط تلجم الشطط، ولا مسؤولية تدفع الزعيم إلى الاعتراف بالخطأ أمام شعب يفترض ان صالحه العام هو مصدر السلطات وعلة وجودها واستمرارها. ولا حدود للرهانات المجنونة على تناقضات كبرى هي إما غير موجودة، أو في حال وجدت فهي غير ثابتة.

الأمثلة التي نراها ونسمعها في بعض دولنا ومن بعض زعاماتنا الطاووسية المنتفخة كثيرة، تارة باسم «النضال والتحرير»... وطوراً تحت شعارات «الإصلاح والتغيير»، كلها تبعث، حقاً، على اليأس والإحباط من أي إمكانية للخروج من نفق التخلف.

في سورية وفي لبنان، اللذين يشكلان «السد الشمالي» لتوسع الدولة الإسرائيلية ـ كما تعلمنا عبر السنين ـ ازمتان حقيقيتان تمسان مستقبل النسيج الاجتماعي والفئوي.

ففي سورية كان مثيراً ومقلقاً في آن التصريح الصحافي الذي أدلى به الرئيس بشار الأسد لإحدى المجلات اللبنانية حول تحوّل شمال لبنان إلى «قاعدة حقيقية للتطرف... وهو يشكّل خطراً على سورية». وهو إذا ما تذكّرنا أنه يأتي على خلفية المفاوضات السورية الجارية مع إسرائيل وعلاقاتها المتطورة مع تركيا، يفيد بأن الثابت الوحيد للحكم السوري هو العداء للإسلام السني الأصولي أو المحافظ، في حين لا مشكلة عنده في الحوار مع إسرائيل التي تحتل الجولان، وتركيا التي أهدتها فرنسا لواء الإسكندرونة «السليب».

طبعاً، من حق ـ بل من واجب ـ أي نظام يرفع شعارات القومية والعلمانية والاشتراكية أن يتصدّى بقوة لتسلل الأصولية الدينية والتعصب الطائفي والتكفيري. لكن أن تسقط كل المحظورات ولا يبقى منها غاية ومصدر شرعية سوى مكافحة «الأصولية» السنية تحديداً.. فهذا أمر خطير جداً، لأنه قد يؤدي على المدى الطويل إلى خدمة هذه «الأصولية»، وخلق المبرّرات لكي تدافع عن نفسها في بلد يعرف القاصي والداني نسب تركيبته السكانية. وهو من دون أدنى شك سيهدّد في المستقبل أوضاع كل الأقليات الدينية والمذهبية والعرقية المستفيدة من الحكم الحالي، والتي سعى هذا الحكم دائماً إلى إقناعها بأنه يخدم مصالحها.

وفي لبنان، حيث أخذ اللبنانيون، بكل طوائفهم وعصبياتهم، يدركون هزال حجمهم وقلة حيلتهم أمام أعاصير المنطقة، فحاولوا «تبريد» أزماتهم وتجميد عداواتهم بانتظار مرور هذه الأعاصير، ما زال هناك من يصر على التعطيل والتأجيج. وما تصعيد النائب ميشال عون قبل بضعة أيام في يوم التئام الاجتماع التصالحي المسيحي الذي رعته «الرابطة المارونية» وعشية سفر البطريرك الماروني إلى الفاتيكان إلا دليل على نهج تدميري لعافية لبنان أولاً، وللسلم الأهلي فيه ثانياً، وللوجود المسيحي في المشرق العربي ثالثاً. والمشكلة أن في الشارع المسيحي ـ والماروني، بالذات ـ من لا يزال يراهن على قدرة عون على ابتزاز الشركاء في الوطن، ونجاح أسلوبه المكشوف. فهو يصعّد ويتهجم بأمل استثارة رد يوظّفه لتعزيز «البارانويا» (عقدة الاضطهاد) و«الزينوفوبيا» (كره الغير) المتأصلة في نفوس مناصريه.

والبديهي، أن ضحايا تهجّمات عون، سواء من المسيحيين والمسلمين، يدركون غاياته جيداً. ولكن إذا كان المسيحيون منهم يرون من حقهم الرد عليه، فالقيادات المسلمة التي يتهمها بالقتل والتهجير والسرقة والفساد والافتئات على حقوق المسيحيين.. لا مصلحة لها في تعزيز مواقعه عند فريق مسيحي مصرّ على «تأليهه».. ولو قاده إلى التهلكة.