ملابسات اللعبة في «تورا بورا» اللبنانية

TT

«كلهم في الهوى سوا». في الدعاية لـ «الأنا» لا يفترق المثقف الباكي ادونيس، عن الصحافي هيكل، عن السياسي بشار الذي يذكرني بصديق مثقف ومفكر كان لا يكف عن اجراء مقابلات مع نفسه. يضع الأسئلة والأجوبة. ثم يمطرني ويمطر الصحف والمجلات بها.

في حديثه الصحافي مع بشار، يبدو ان ملحم كرم نسي، أدبا، ان يسأله عن معاناة سورية من الارهاب. لم يكن بشار إلا أن سأل نفسه ووضع الجواب، طالبا من نقيب المحررين اللبنانيين إلحاقه بنص المقابلة المسجل. وهكذا كان للمقابلة دوي أخرجها من إطار مقابلات العلاقات العامة.

سبق لي ان قلت، في هذه الصحيفة، ان الغرض الدائم للنظام السوري هو تسخير السياسة والدعاية لخدمة كفاحه من أجل البقاء. الأمن هو المؤسسة الوحيدة العاملة في دولة مشلولة نخرتها مؤسسة الفساد من فوق الى تحت.

عندما تحدث اغتيالات فردية. عندما تحدث عمليات ارهابية، فالنظام لا يعلن عنها. عندما يضطر للإعلان عن عملية نسف الباص، فهو يضطر للاعلان عنها لضخامتها. هي الاولى من نوعها في شارع سوري حيث جامع النفايات فيه هو مخبر سري. عندما يحدث كل ذلك، فالنظام يدعم أمنه المهدد بحشد عسكري على حدود «تورا بورا» اللبنانية. اعني منطقة الشمال اللبناني التي باتت تعج بخلايا القاعدة وما شابهها.

دخلت سورية لبنان (75/1976) بحجة الخوف على أمنها. لكن لن تعود اليوم إلى غزو لبنان. هناك مبالغات سياسية حول الحشود السورية على الحدود. النظام السوري أذكى من أن يقع في الفخ مرة أخرى، بعدما تعهد بشار لساركوزي فرنسا واردوغان تركيا بالالتزام بقواعد العلاقات بين الدول المتحضرة.

كان الأسد الأب أذكى من جاره اللدود والغبي. صدام دخل الكويت فلم يجد حليفا في انتظاره. الأسد نسج شبكة من التحالفات العنكبوتية مع قوى وأشخاص وأحزاب من كل طوائف لبنان.

الثغرة الوحيدة في هذه التحالفات «الأبوية» والوصائية كونها لم تُلقِ بالا إلى كسب الشارع السني. كان الأسد بحاجة إلى القوى المقاتلة. سنة لبنان بالذات لم تتورط في الحرب الأهلية ضد الموارنة عندما انقلب هؤلاء على الأب.

«مَرْجَلَةُ» قبضايات سنة بيروت كونها كعجلة السيارة قابلة «للتنفيس» في أول مسمار يخترقها. شعرت سنة بيروت بإهانة كبيرة عندما «نَفَسَّتْها» مسامير الشيعة (حزب الله الإيراني) في مايو الماضي. من هنا، لم يكن غريبا أن يتجه زعيم السنة الحالي سعد الحريري إلى (الاستقواء) بنشامى السنة الأشداء في طرابلس وشمال لبنان (عكار) ثم بسنة البقاع وصيدا (عاصمة الجنوب).

سنة لبنان خسرت سباق الأرانب مع شيعة لبنان التي تتوالد بقوة «الفياغرا»، خلافا لدروز جنبلاط القانعين بتحديد النسل قبل الفياغرا وبعدها. كانت سنة لبنان تجد «خزانها» العددي المتفوق بارتباطها العروبي العاطفي بسنة سورية. ريبة الأسد الأب بسنة سورية امتدت إلى ريبته بسنة لبنان، وأخيرا إلى ريبته بالراحل الحريري الأب الذي حاول، عبثا، كسب ثقة «الأسدَيْن» به.

في العصر الحريري (الأب والابن)، طرأت تحولات على حالة سنة لبنان العاطفية. نتيجة تغريب النظام العلوي لهم، وانكفاء دور مصر القومي، تدروشت سنة لبنان. راحت ترى في الإسلام السياسي ملجأها الروحي. الحريري رعى الاتجاه الديني المعتدل في وسطه السني. لكن كما حدث في العالم العربي، منذ نشأت على هامش الاعتدال العريض تنظيمات وخلايا نائمة ومتحركة مرتبطة بالقاعدة أو مستلهمة لها.

على الرغم من إنكار الواقع، فقد تركزت هذه الخلايا السنية «الحربية والتكفيرية» في طرابلس وعكار، أي في ما أسميه بـ«تورا بورا» اللبنانية. خلايا متكتمة. «قوية الشكيمة». مدربة على القتال. ومحتفظة بمعنويات قوية وانسداد متزمت. كان الأمن المخابراتي السوري في لبنان رادعا لهذه الخلايا والتنظيمات. في مهارة الأسد في حبك وفك التحالفات، فقد اشترى ولاء بعض هذه الخلايا، في مقابل ضمان بقائها. تحريك أو «تنويم» نظام بشار لهذه الخلايا، هما وجه من وجوه اللعبة غير النظيفة التي تتورط فيها سورية اليوم والتيارات السياسية في لبنان، بما فيها «حزب الله» بالوكالة والنيابة عن إيران، في تورا بورا طرابلس وعكار.

لست أبالغ عندما أتحدث عن دور المخابرات الإيرانية الازدواجي. دليلي تورطها في تمويل وتسليح خلايا في تنظيم «القاعدة» السني في العراق. لا رحمة في هذه اللعبة القذرة. هذه الخلايا تقوم بعمليات دموية ضد السنة والشيعة ونظام المالكي والقوات الأميركية. الهدف الإيراني جعل العراق مرجلاً يغلي بالدماء باستمرار، لإبقائه ضعيفا غير مهدِّد لأمن ومصالح إيران.

وهكذا، فالنظام السوري يشرب من كأس المرارة الإرهابي الذي جرَّعه لغيره في لبنان وغير لبنان. سورية التي تجاهلت إلحاح لبنان على ترسيم حدوده معها، هي التي تستعجله اليوم، وتنشر قواتها على حدود «تورا بورا» لمنع التسلل.

أعرف أني أضايق تيارات سياسية في لبنان، وربما أحرجها، لكني أومن بأن مهمة الصحيفة، أية صحيفة، هي مجابهة الرأي العام بالواقع مهما كان مرا. الخلايا التكفيرية ترى في سعي سورية وإيران والتيارات السياسية اللبنانية إلى كسبها ما يخدم غرضها في الانتشار وترويع السوريين واللبنانيين بعمليات عنف، لا تفرق فيها بين نظام أو تيار، أو مجتمع تكفره أصلا وتحلل دمه بحجة «جاهليته».

هل أنا بحاجة الى الاستشهاد بسوابق، للدلالة على خطر التعامل مع التنظيمات «القاعدية»؟ نعم، ها هي أميركا تتجرع كأس المرارة حتى الثمالة، على ايدي التنظيم التكفيري الذي استعانت به لإرسال «الكفار» الروس في أفغانستان إلى جهنم. ها هي باكستان التي ولدت طالبان في رحم مخابراتها تذوق مرارة نكران الجميل. عمليات «القاعدة» وطالبان التي تريق دماء الباكستانيين الأبرياء تذل المخابرات العاجزة عن إعادتها الى القنينة التي انطلقت منها.

بل ها هو اليمن اليوم يعاني من إرهاب التنظيمات التكفيرية، بعدما استعان بها في حرب النظام ضد محاولة الاشتراكيين الماركسيين الانفصال مرة أخرى بالجنوب عن الشمال.

الدولة لا تربط سياستها بأشخاص، انما بمصالحها الوطنية المتغيرة. ساركوزي واقعي غير شيراك العاطفي. فتح ساركوزي نافذة على سورية، لا لـ «يتآمر» معها ضد لبنان، كما يظن مبالغةً خصوم سورية في لبنان. ها هو ينصحهم بعدم التهويل على أنفسهم في تفسير الحشود السورية على حدود «تورا بورا».

فرنسا تنصح بترك القضية «للتنسيق الأمني» بين الرئيسين ميشال سليمان وبشار. بطريرك الموارنة من هذا الرأي أيضا. مروان حمادة الزائر لباريس يظن ان واجبه اللبناني الوطني لَيُّ ذراع ساركوزي، من خلال تحريض حلفائه وخصومه ضده، عقابا له على دوره السوري.

لست لائما مروان فهو محق في دفاعه عن لبنان وحلفائه الأكثريين، بعدما نجا بمعجزة من محاولة الاغتيال (2004) التي سوف يحمل آثارها في نفسه وجسده طيلة حياته.