ماذا وراء المصالحات في لبنان؟

TT

ما الذي جرى وفتح الآن الأبواب اللبنانية المقفلة على الغيظ والضغائن، بعد عامين ونيف من أزمة خطيرة عطلت الحكومة والبلاد، ووصلت إلى حد اجتياح بيروت عسكريًا. وهو ما وضع لبنان على حافة فتنة مذهبية، كان يمكن أن تشكل شرارة تُشعل المنطقة كلها؟

وما الذي دفع الأفرقاء جميعًا في الحزب الاشتراكي أولاً ثم في «حركة أمل» و«حزب الله» ثم في «تيار المستقبل» إلى اتخاذ قرار الهبوط الهادئ والتدريجي، من سقف أزمة متفجرة إلى بداية سلسلة من المصالحات والمصارحات، تستتبعها الآن اجراءات ميدانية لنزع الصور والشعارات واللافتات من الشوارع، التي طالما تسببت في وقوع إشكالات وصدامات أمنية تهدد الاستقرار النسبي في لبنان؟

عمليًا من الواضح تقريبًا أن مجموعة من العوامل والأسباب جعلت الأفرقاء المتصارعين في لبنان ينخرطون في مسار معاكس باتجاه التهدئة وضبط الأمور وقيام مصالحات تقفل أو تساعد على الأقل، في إقفال الأبواب أمام احتمالات كانت ولا تزال تقلق الجميع.

كان النائب سعد الحريري زعيم «تيار المستقبل» رائد التحرك في اتجاه إجراء المصالحات، عندما اختار البوابة الطرابلسية كبداية لتحرك شامل لن يلبث أن يعطي ثماره. وذلك لأسباب متداخلة وحساسة. فقد استشرى الصراع في عاصمة الشمال اللبناني ووصل إلى حد يهدد بإثارة فتنة واسعة، انطلاقًا من عمليات القصف والتراشق والتدمير، التي كانت تجري بين منطقة جبل محسن ذات الأغلبية العلوية وبين أحياء في مدينة طرابلس ذات الأغلبية السنّية. وليس سرًا أن الوضع المتفجر في طرابلس وصل إلى حد بات ينذر معه بحدوث تدخل عسكري سوري محتمل، بذريعة حماية الأقلية العلوية. وبرغم كل الجهود والمصالحات التي بُذلت كان هناك دائمًا فريق ثالث أو طابور خامس يتعمّد إشعال الوضع وتأزيم المواجهات.

وعندما ذهب السفير السعودي في لبنان د. عبد العزيز خوجة إلى طرابلس بتوجيه شخصي من خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله، لم يتردد البعض في بيروت وانطلاقًا من إيحاءات خارجية عربية وإقليمية، في محاولة الزعم أن زيارة خوجة، إنما تأتي في سياق محاولة تعويض الرياض عن خسارة بيروت، التي كان قد اجتاحها «حزب الله» بكسب طرابلس!

لقد قيل هذا الكلام رغم تصريحات خوجة التي ركّزت في وضوح على اهتمام الرياض بالمصالحة والحوار وعودة الوئام بين الجميع من دون استثناء وعلى تأمين المساعدات اللازمة لهم.

وانتقل سعد الحريري إلى طرابلس وعكار أيضًا حيث أمضى ثلاثة أيام سعى في خلالها إلى هندسة مصالحة بين الجميع أقفلت أبواب الفتنة وسدت الطريق على أي تدخل خارجي محتمل وتحت غطاء نصرة العلويين.

من طرابلس انتقل الحريري إلى البقاع لترتيب أجواء أكثر هدوءًا وخلق ظروف مؤاتية للمصالحة مع «أمل» و«حزب الله»، وكل ذلك على خلفية متفق عليها مع النائب وليد جنبلاط وقوى 14 آذار، لمعالجة المشاكل وامتصاص مكونات الصراع، الذي كان ولا يزال واضحًا أن هناك من يريد انفجاره بما يهدد بعودة الأمور إلى ما كانت عليه قبل الانسحاب السوري من لبنان.

ومن البقاع ذهب الحريري إلى صيدا عاصمة الجنوب ليستكمل خلق أجواء هادئة ومساعدة، في حين كان الأمير طلال أرسلان يرعى مصالحة تتقدم حثيثًا بين «أمل» والحزب الاشتراكي أولاً، ثم بين هذا الأخير و«حزب الله».

وإذا كانت الظروف والمخاوف والاحتمالات وضرورات التحسب، قد دفعت الحريري وجنبلاط وقيادات 14 آذار في اتجاه اختيار طريق المصالحات، برغم كل سياسات التحامل والاتهامات وعمليات التنكيل التي تعرضوا لها، وخصوصًا في 7 أيار/مايو عند اجتياح بيروت ومحاولة اختراق الجبل، فان «حزب الله» واجه في حساباته أيضًا احتمالات مقلقة تستدعي التحسب وإعادة لملمة الأوضاع ومحاولة ترميم العلاقات المتصدعة مع الأكثرية في لبنان.

وفي هذا السياق ليس سرًا أنه رغم كل ما يقال في الخطب والمواقف العلنية لمسؤولي «حزب الله»، فإن هناك مخاوف حقيقية من أن تقوم إسرائيل بعدوان جديد على لبنان، على خلفية السعي إلى تصحيح الصورة السلبية التي خرجت منها من عدوان صيف 2006.

وليس سرًا أيضًا أن التهديدات المتلاحقة التي أطلقها وزير الدفاع إيهود باراك، تزامنت مع إعداد خمس فرق للحرب ضد لبنان و«حزب الله».

وليس غريبًا أن يشكل هذا عاملاً ضاغطًا يستدعي ضرورة إعادة ترتيب العلاقات الداخلية سواء بالنسبة إلى «حزب الله» أو بالنسبة إلى كل القوى الأخرى في البلاد.

وهناك عامل ثانٍ مؤثر وأساسي يستدعي من الجميع وخصوصًا «حزب الله» ترسيخ الأرض اللبنانية، التي يقف عليها بدلاً من استمرار الخلافات والصراعات. هذا العامل يتمثل تحديدًا في المفاوضات السورية ـ الإسرائيلية غير المباشرة التي تُجرى برعاية تركية وبتشجيع أميركي وأوروبي.

وليس سرًا هنا أن مصير «حزب الله» ومستقبله يشكلان بندًا في المفاوضات يتقدم بالنسبة إلى الإسرائيليين، على أي أمر آخر. وقد صدرت تصريحات إسرائيلية صريحة بهذا الخصوص. ومن حق «حزب الله» أن يتوجس ويقلق بما يفرض عليه إعادة ترتيب علاقاته الداخلية مع شركائه في الوطن اللبناني.

العامل الثالث الذي يدفع بـ«حزب الله» في اتجاه الحرص على إعادة وصل خيوطه الداخلية المقطوعة، هي الآثار السيكولوجية والسياسية العميقة التي خلّفتها عملية اجتياح بيروت، وأيقظت كثيرًا من مشاعر الألم والغيظ بين السنّة والشيعة، في وقت تتعمق فيه هذه الخلافات المذهبية إقليميًا، رغم كل الجهود المبذولة من القيادة السعودية لمنعها.

وإذا أضفنا إلى كل هذه العوامل أن لبنان انتخب العماد ميشال سليمان رئيسًا للجمهورية وقد بدأ برعاية الحوار الوطني، الذي تمّ الاتفاق على إجرائه في الدوحة. ثم إذا تذكرنا أن البلاد متجهة إلى إجراء انتخابات نيابية في الربيع المقبل، وان تعليق لافتة هنا أو هناك كان يوقع قتلى وجرحى كما حصل في بيروت والبترون، بما يعني أنه من المستحيل إجراء الانتخابات وسط هذه الأجواء الانقسامية والصراعية.

عند كل هذا يمكن أن نفهم الخلفيات والدوافع التي جعلت سبحة المصالحات تكرّ في لبنان، وإن كانت المصالحة بين الزعماء الموارنة ما تزال تواجه صعوبات وعراقيل.

في أي حال ان السؤال الجوهري الذي يطرحه الكثيرون في بيروت هذه الأيام هو:

هل كان من الضروري أن تخرب «البصرة اللبنانية»، لكي يتذكر اللبنانيون أنهم كما قال نائب «حزب الله» محمد رعد بعد لقائه الحريري: «نحن لسنا جيرانًا متخاصمين، بل نحن أخوة متصالحون»؟!