قراصنة .. وأنفاق

TT

هناك غرام بشري باللصوص الظرفاء بدءا من روبن هود إلى أرسين لوبين وقراصنة البحار سواء كانوا شخصيات حقيقية أو وهمية، فقد دخلت هذه الشخصيات مجال الروايات الأكثر مبيعا والأفلام الأكثر رواجا مثل سلسلة أفلام قراصنة الكاريبي الذي سيتقاضى بطلها جوني ديب ما يتجاوز الـ 50 مليون دولار عن الجزء الرابع من السلسلة.

وهي قصص وشخصيات تلقى تعاطفا أو تفهما عندما نشاهدها أو نقرأها باعتبارها شيئا من الماضي، خاصة إذا وضعت في إطار أنه يسرق من الأغنياء لمكافحة الظلم وإطعام الفقراء، لكن لا يوجد أحد يقر السرقة في حد ذاتها باعتبارها فعلا لا يستقيم مع مجتمع أو مجتمعات صحية، أو الأخلاقيات التي اتفق عليها البشر. ولا بد أن القرصنة وقطع الطرق وما إلى ذلك في زمنها كان ينظر إليها على انها فعلا كريها.

وفي كل تاريخ المجتمعات البشرية منذ تدوين التاريخ وحتى يومنا هذا هناك دائما هذا النوع من النشاط الخارج عن نطاق القوانين والأعراف والنظم المتعارف عليها، وهي موجودة في كل المجتمعات متقدمة ومتخلفة بأشكال وطرق ووسائل مختلفة، وذلك على هامش التيار العام في المجتمع مثل المافيا وعصابات التهريب في الممنوع وغير الممنوع، وهذه هي طبيعة الحياة الإنسانية، لكن الخطر هو عندما يتوحش هذا النشاط الهامشي الممنوع ليطغى التيار العام أو يصبح هو الطبيعي لأن معنى ذلك أن المجتمع مريض وعلى حافة الفوضى والانهيار، ولا بد أن يكون هناك شيء خطأ أدى إلى ذلك.

وفي عالمنا اليوم، يمكن مد ظاهرة اللصوص الظرفاء إلى نشاط القراصنة في الصومال الذين يقومون على الطبيعة بما هو أكثر من أفلام قراصنة الكاريبي ليهددوا حركة الملاحة ويحتجزوا عشرات السفن ووصلوا إلى درجة احتجاز سفينة محملة بدبابات وأسلحة، ويطاردهم أسطول مسلح من بحريات القرن الواحد والعشرين المجهز لحروب نووية. واستفاد قراصنة اليوم من تكنولوجيا العصر، وأصبح لديهم ميليشيا وهيكل منظم ومسلحون بالآلاف وحتى متحدث رسمي للتعامل مع الصحافة والإعلام يحاول تبرير ما يقومون به بان الآخرين ينهبون مياههم، وأصبح القرصان في إطاره المحلي شخصية محترمة يخطب الجميع وده.

وإذا انتقلنا إلى بقعة أخرى قريبة هي الحدود بين غزة ومصر أصبح غير العادي في التجارة هو العادي وهي ظاهرة الأنفاق لتهريب ما هو مسموح وما هو ممنوع، وأصبحت هناك جمعية لأهالي ضحايا الأنفاق الذين يطالبون علانية «بحرية الأنفاق» مثلما تطالب منظمة التجارة العالمية بحرية التجارة، وحكومة حماس تبرم اتفاقات مع أصحاب الأنفاق الذين أصبحوا مثل شركات تنظم تدفق التجارة من أجل حماية «العاملين في الأنفاق» كما أفاد أحد التقارير الصحافية، وهكذا أصبح غير الطبيعي هو الطبيعي بما يعني أن هناك مرضا. وهناك أمثلة كثيرة في العالم، تشترك في أن مجتمعاتها أو دولها مريضة أو منهارة.

وفي الحالتين الصومال وغزة، من الخطأ تبرير الظاهرة أو الدفاع عنها فالخطأ خطأ ولا يصح أن يقال غير ذلك، لكن يجب أيضا فهم الظاهرة وأسبابها ووضع الحلول، ففي الحالة الصومالية هناك دولة منهارة، ومجتمع بلا قوانين تقريبا منذ فترة لدرجة أن البعض يتندر بأن مبادئ فكر الاقتصاد الحر التام ليست في أميركا ولكن في الصومال وقد ترك العالم لسنوات هذه الدولة لمشاكلها وزعماء الحرب الذين لا مصلحة لهم في قيام دولة قوية، لأن العنف والأخطار كانت محصورة في إطارها المحلي، ونسي العالم أن الفوضى والإنهيار عندما يضربا دولة فلأنها لا تلبث بعد فترة أن تنقل أمراضها إلى الخارج.

وأيضا غزة لا يمكن أن يكون مستقبلها التجاري هو الأنفاق فالناس يفترض أن يعيشوا فوق الأرض وليس تحتها، والمتحكمون في هذه الأنفاق هم في النهاية مهربون، مكانهم في ظروف طبيعية قسم الشرطة، لكن أيضا يجب أن يكون هناك جهد فلسطيني قبل الإقليمي والدولي يتجاوز الخلافات المحلية لحل المشكلة لمصلحة الناس أولا بما يسمح بعودة الحياة إلى طبيعتها بدلا من تصدير المشكلة عبر الأنفاق.