ماذا نفعل مع حماس ؟!

TT

العالم كله يعيد تنظيم نفسه، الأزمة الاقتصادية الأمريكية والعالمية تعيد ترتيب أمريكا أولا ومن بعدها الدول الصناعية الكبرى، ومن بعدهم الدنيا كلها. والعالم يعيد تنظيم نفسه أيضا لأن تجربة السنوات السابقة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر وصلت إلى طريق مسدود، فبعد أن زلزلت الكون وأطاحت بنظم وأقامت نظما أخرى، تفجر العنف كما لن يتفجر من قبل، وخرجت بلدان بأنظمة مترنحة أو بلاد أخرى بلا أنظمة على وجه الإطلاق. وباختصار جاءت الفوضى في أجزاء مختلفة من العالم، ولكن لا توجد إشارة واحدة على أن شيئا خلاقا سوف يصعد من الركام. والنتيجة تطلعات كثيرة، مرة نحو روسيا لعل الحرب الباردة تأتي مرة أخرى بأيام يظنها البعض كانت سعيدة، ومرة لانهيار الولايات المتحدة لعل وعسى ينصلح حال الكوكب، ومرة لكي يخرج اللغز الصيني بما هو أكثر من الألغاز والأحاجي. وربما جاءت الانتخابات الأمريكية وسط ذلك كله لكي تحكي قصة مفترق الطرق العالمية حيث يحبس الجميع الأنفاس انتظارا لإدارة جديدة قد يكون لديها من الطاقة والقوة ما يعدل المقلوب، أو على الأقل يعطي نظاما لفهم غير المفهوم، ويبعث يقينا في نظام عالمي لم يعد فيه سوى الشكوك والظنون.

وربما كان كل ما سبق عاما بأكثر مما ينبغى، ولكنها الحقيقة أن ما قيل عن إعادة تشكيل الدنيا انطلاقا من واشنطن إيجابا أو سلبا ليست أمرا يمكن تجنبه أو غض البصر عنه. ولكن المدهش أن العالم العربي كله لا مكان له في ذلك النقاش والحوار وحتى المناظرات التي تجرى في مدن أمريكية بحثا عن مسار أو طريق. ما نراه على الشاشات وفي الصحف والأحاديث والإعلانات ثلاثة قضايا: القضية الإسرائيلية ـ وليس الفلسطينية ـ هي مركز الشرق الأوسط وما فيه من حلفاء وأعداء، والقضية النفطية حيث الهدف الاستراتيجي تحقيق الاستقلال عن النفط العربي بحيث لا يبقى لدى العرب بعد ذلك ما يستحق الاهتمام، والقضية النووية الإيرانية لأن إيران بها ثورة وتعادي إسرائيل والولايات المتحدة. ما عدا ذلك اختفى العالم العربي كله وأصبح خارج الحسابات الأمريكية تمهيدا لكي يكون خارج الحسابات العالمية أيضا. وبدون جرح لحساسيات وأعصاب أحد، فإن دولة عربية واحدة مهما كانت علاقاتها مع واشنطن، لم ترد لا في حوار أو نقاش أو مناظرة، بل إن أحدا حتى لم يهتم عما إذا كان العالم العربي سيكون ديمقراطيا أم لا حيث ظهر أن العرب مهتمون بمن كان الأحق بالخلافة منذ أربعة عشر قرنا عن حالة الخلافة السياسية في عالم اليوم. وعندما تظل أمة بأكملها تعيش عند ذلك البعد في الماضي الثقافي والفكري، فإن العالم يفضل أن يبقيها بعيدا على الهامش في حالة من الحجر الصحي حتى تشفى أو يتقى العالم ـ خاصة الإسلامي ـ بعضا من عدواها.

ولعل ذلك كله يحتاج إلى معالجات خاصة، ولكن ما لا يمكنه الانتظار فهو القضية الفلسطينية التي ضاعت على جانب التطورات السابقة، وربما تصل إلى بر النسيان في التطورات القادمة. فمع غياب عملية تفاوض جادة، واستمرار عمليات الاستيطان الواسعة على الأرض الفلسطينية، وتوقف المقاومة مع وجود «التهدئة»، ومعادلة الحديث عن «حق العودة» بحديث أكثر عن «حق الخروج» من الأرض الفلسطينية، فإن نضال أجيال من الفلسطينيين والعرب من أجل دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس الشريف على وشك الوصول إلى نهاية محتومة حيث انتهى اهتمام العالم، وأصبحت إسرائيل تعيش حالة من الأمن والرفاهية لم تحصل عليها منذ عقود حتى اقترب متوسط دخل الفرد الإسرائيلى من 30 ألف دولار. وحتى في العالم العربي فإن القدرة على تحمل قضية تخلى عنها أبناؤها ولم يعد لديهم إلا لوم كل الأطراف الدولية والإقليمية بل وكل الدنيا إلا أنفسهم قد وصلت إلى نهايتها. وربما تكون الجهود المصرية الراهنة هي آخر المحاولات لانتزاع القضية من الهوة التي وصلت إليها؛ ولكن على الجانب الآخر فإن حماس لم تترك منفذا إلا استغلته من أجل إفشال هذه الجهود.

من هنا فإن موقف حماس يصبح جوهريا للغاية ليس فقط بالنسبة للقضية الفلسطينية التي لم يبق منها عالميا إلا القضية الإسرائيلية، ولكن أيضا بالنسبة للعالم العربي كله ومكانته في الترتيبات العالمية القادمة. وبصراحة فإن العالم لن يكون قادرا على أخذ أي من الأطراف العربية بجدية مهما كان وزنها إذا كانت سوف تسمح لجماعة أصولية بتقسيم فلسطين حتى قبل أن تكون دولة، وتضع شعبا عربيا بأكمله تحت الحصار العالمي، بينما تهدد مباشرة دولة عربية رئيسية باختراق حدودها والتهجم على قادتها وسياستها. ويحدث ذلك بينما ينفرط حال دولة عربية أخرى إلى دول صومالية متعددة تقوم بالقرصنة البحرية وقلب أحوال منطقة القرن الأفريقي بأكملها وتهدد ممرات بحرية عالمية استراتيجية.

وبالتأكيد فإن هناك أمورا أخرى تستحق الاهتمام، ولكن ما تقوم به حماس وما تنوي القيام به يظل جوهريا في أي محاولة عربية ليس فقط في بعث القضية الفلسطينية، وإنما للمشاركة في الترتيبات العالمية المقبلة حيث «القضية الإسرائيلية» تلقى اهتماما جوهريا. وفي القريب العاجل سوف يكون هناك عدد من المحطات التي لا يمكن تجنبها والتي سوف تكون بمثابة اختبارات عالمية للأداء العربي. ففي شهر يناير المقبل سوف تصل فترة رئاسة الرئيس عباس إلى نهايتها، وعندها سوف يكون الانفصال الذي قامت به حماس قد تعدى عاما ونصف، ولا يمكن حل المعضلتين دون اللجوء إلى انتخابات عامة فلسطينية يقرر فيها الشعب الفلسطيني مصيره ليس إزاء إسرائيل بل إزاء قادته من الفلسطينيين أولا.

وبصراحة فإن هذه القضية ليست فلسطينية فقط، ولا يمكن لجماعة حماس أو غيرها من المنظمات الفلسطينية أن تطلب عون العالم العربي دون شرعية واضحة، واستراتيجية أكثر وضوحا. فلم يعد لدى العالم العربي صبر على المعارك الكلامية، ولا المناورات السياسية، أو حتى الانتظار إلى ما لا نهاية حتى يقرر جماعة من الفلسطينيين مصير الشعوب العربية الأخرى. وربما آن الأوان لكي تتخذ الجامعة العربية موقفا من انفصال حماس ووقوفها في وجه المقاومة والمفاوضة في آن واحد، وحيث تريد التهدئة والحرب في نفس اللحظة، والتعامل مع «الشرعية» الدولية ومهاجمتها في نفس الوقت، والاعتراف بالسلطة الوطنية والخروج عليها في كل الأوقات. وفي مثل هذا الموقف فإن لسورية مكانة خاصة بالنسبة للإجماع العربي، فإذا كانت قد اعترفت بلبنان مؤخرا حتى تبادلت معها السفارات، وإذا كانت أدركت شرور «الأصولية» من خلال العمليات الإرهابية الأخيرة، وإذا كانت تريد نجاحا لمفاوضاتها المقبلة مع إسرائيل بحيث يتم تحرير الجولان، وإذا كانت باختصار تريد عودتها وعودة العرب إلى المشاركة في عملية ترتيب المنطقة فإن مشاركتها في موقف عربي موحد سوف يكون مفيدا لها وللعرب وللشعب الفلسطيني كله.

وكما ذكرنا فإن نقطة الانطلاق هي انتخابات جديدة للرئاسة والمجلس التشريعي تجري تحت إشراف دولي في الضفة الغربية وقطاع غزة؛ فإذا اختار الشعب الفلسطيني حماس لرئاسة السلطة الوطنية وحصلت على أغلبية المجلس التشريعي فإن التناقض الراهن سوف ينتهي ويصبح على حماس وتيارها الفكري والسياسي أن يتحمل المسؤولية التاريخية عن القضية الفلسطينية وساعتها سوف يكون على كل دولة عربية أن تبحث عن مصالحها. أما إذا كان للشعب الفلسطيني اختيار آخر فإن العالم العربي سوف يكون عليه أن ينزع الشرعية عن التيارات الفلسطينية التي تحمل السلاح ـ وليس المعارضة ـ ضد السلطة الوطنية المنتخبة والاختيار الوطني الفلسطيني. والحقيقة أن الانتخابات لن تكون فقط بين فصائل ومنظمات وأشخاص، وإنما سوف تكون حول منهج للتحرير وآخر لبقاء الاحتلال؛ وسبيلا لتحقيق وحدة الشعب الفلسطيني وآخر لتكريس التقسيم والانفصال فيه؛ وطريقا للعودة إلى العالم وآخر يأخذ في اتجاه الانفصال عنه بل ومعاداته.

أيها السادة لم يبق في الوقت الكثير وآن وقت اتخاذ قرارات كبرى في العالم العربي وفي فلسطين!