بلاد الصحوات والمنامات..!

TT

إنه العراق.. ما يستقر إلا ليثور، ولم يبق حافر من خيل أقوام الأرض لم يطأ أرضه: اليونان، والفرس، والعرب، والديلم، والمغول، ومختلف قبائل الترك، والبرتغاليون، والبريطانيون، وآخرهم كان الأمريكان برفقة مقصودة أو غير مقصودة للقاعدة. حتى الهنود، تركوا في أشهر مقابر كرخه: مقبرة الشيخ معروف ضريحاً لأحد معتبريهم: القديس نانك (1449 ـ 1539)! بلاد كثرت فيها النعم، وزادت فيها المظالم والحروب. أرضها مشرعة على جميع الجهات، ومفتوحة لمَنْ امتلك القوة ورباط الخيل والعقائد، مهما علت ونزلت. فكم من منامات امتشقت بها الجماعات السلاح، وتوجهت لأخذ الدولة، تحت مبررات لا تجد لها تفسيراً سوى ضحالة الحال، وتردي الدولة إلى الطمع بها، وفكرة أخذها بالعصي والهروات.

وعندما تحدث اهتزازات عراقية كبرى، على مستوى سقوط الدولة، لا تجد جهات يعشى بنارها سوى العشائر، ففي تلك اللحظات تغيب القوى المدنية والمثقفة، أو تتحول إلى وجودات هشة غريبة على ما حولها من عجائب. وبدت العشيرة أخلص الكيانات لتعاليمها وتداولها بسلفية قوية، والأخلص لراياتها وأسلحتها. لا تعتمد على الداخل العراقي حسب، بل لها امتدادات خارج الأعراف والقيود الأمنية والدبلوماسية، لهذا لا تصعب صلاتها خارج الدولة في عزِّ الدولة، فكيف الحال بعد انهيارها!

قطعاً، لم تدخل القاعدة إلى مدن وقُرى أطراف بغداد، وديالى، والموصل، بلا حياد العشائر أو موافقتها، أو منها كان العلاسون لها، منه القبول بشعار التحرير، وهو شعار مغرٍ، ومنه تديناً، والشعار مغرٍ أيضاً: دولة خلافة أو إمارة إسلامية، ومنه الثأر لفداحة خسارة. والعلاسة مصطلح شائع حالياً ومهمته أخبارية سرية، يستخدم في «صيد الضحايا»، أو صيد المطلوبين على حد سواء، ومهمته مهمة الطُعم في السنارة.

مهما اختلفت مذاهب العلاسين لدخول وإيواء القاعدة إلا انها انتصرت بهم، وسرعان ما قيدتهم بما ليس في حسابهم. هذا هو المدخل الذي أضاء للأمريكان الطريق إلى التعامل مع عشائر أعالي النهرين لتنظيم وانتصار الصحوات مقابل تشتت وهزيمة العِلاسة، حتى أضحت أوكار القاعدة مكشوفة، بل ومطاردة داخل الإمارات التي أقامتها. وكأنها جاءت مقابل الصحوة التي أُطلق بها تنظيم القاعدة نفسه، الصحوة الإسلامية، ويقبل معنى المصطلح الصحوة من غفلةٍ أو من منامٍ أو وهمٍ، وأراها فكرة ذكية ومحسوبة، ومزدوجة السلاح.

هنا، لا بد من الإشارة إلى التقصير تجاه مناطق حُصرت بتسمية «المثلث السُنِّي»، على أنه كله قاعدة وعدو! إذن من أين خرجت الصحوات، وكيف استغلت أخطاء أمراء القاعدة الفظيعة بحق تلك المناطق! ولماذا تمكن الأمريكان، القائد السابق على وجه التحديد، من فتح الحوار في تلك الأدغال، ولم يتمكن العراقيون أنفسهم منه على قاعدة الوطن! بل على العكس، كلما يقترب الأمر إلى بعضهم البعض تثور الشكوك، وتكثر المخاوف والهواجس، وتنحصر التطمينات من القلوب، هذا ما لوحظ وأثير حول القرار الأخير، ألا وهو ضم عناصر الصحوات إلى كيان الدولة.

يأتي في مقدمة تلك المخاوف الثأر من العناصر، التي يُعتقد أنها عملت في (العلاسة) للقاعدة، وأن دوائر الدولة ستتعامل معها بالعداوة السابقة، من دون النظر في مقارعتها للقاعدة، وفضلها في هزيمة الأخيرة من على أرض الرافدين. مع أن هناك أكثر من قرار عفوٍ عن كل العناصر المسلحة، التي ترمي السلاح، وتنضم إلى العملية السياسية، ومعلوم أن كيانات الصحوات، على هذا الأساس، معفية مما سبق.

ويبدو أن ما أثارته وسائل الإعلام، أو ضخَّمت من حجمه، كان جس نبض أو تحذيراً، وبثاً من دواخل الصحوات نفسها، تلك التي تأخر تشكيلها حتى العام 2006، بينما كانت القاعدة تجول وتصول، والفتنة الطائفية مفتوحة على مصراعيها. لكن، بينما تطمئن دوائر الدولة عشرات الألوف، وهي التي فقدت ما فقدت من الرجال القادة في الحرب عن الدولة! وتحملت التشويه، مثلما كانت الدولة تتهم عناصرها، التي يُعتقد أنها تعاملت مع القاعدة من قَبل!

هنا، تحتاج الدولة، أو السلطة، نفسها إلى صحوة، وتأخذ بنظر الاعتبار المهمة العسيرة التدبير من دون عشرات الألوف من عشائر الصحوات، وهي إخراج القاعدة من كهوفها، وألا يُحتسب توظيفها بمكيال المحاصصة، أو التهميش بضغائن ما حصل في الماضي. إنها فرصة أن تستوعب الدولة هذه الأعداد الكبيرة، لتفكهم من قيد التنظيم العشائري، وتزجهم في المسؤولية المباشرة عن الأمن والبناء، لا تخصص لهم معاشات، كدفع أجور ما فعلوا، من دون مسؤوليات، وثقة في مهام الدولة. وتذكروا للجواهري، وإن كانت المناسبة لا تروق لكم، لكن العبرة بالمعنى والمدلول: «فلا تخذلوا منهم حليفاً مقرّباً.. ولا تشمتوا فيكُم وفيهم مُجَّنبا».

[email protected]