صغار للغاية أمام أزمة كبرى

TT

تحولت الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها أميركا إلى أزمة سياسية، وأخذت الثانية تتفاقم حتى أصبحت تحظى بالاهتمام عن الأولى.

وقد شهدنا خلال الأيام القليلة الماضية شيئا غير عادي تمثل في ثورة الآيديولوجية ضد السلطة وضد الواقع. لقد تم اقتحام «باستيل» رأي المؤسسة التي تسيطر على مقاليد الأمور في البلاد وتمت السيطرة عليه، لفترة على الأقل. بيد أن تلك الثورة افتقرت في روحها إلى المسؤولية.

ونادرًا ما تكون النخبة الحاكمة في أميركا متحدة بمثل تلك الصورة في مواجهة تحدٍ وطني. الرئيس، ووزير الخزانة، ورئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي، جمعيهم يؤيدون بقوة شراء الحكومة للأصول غير السائلة التي تسد شرايين أسواق الائتمان. وقد وافقت قيادات كلا الحزبين في مجلسي الكونغرس على خطة (الإنقاذ) بعد إجراء تعديلات حصيفة عليها، وأيدها المرشحان لمنصب الرئيس، حتى ان أحدهم أوقف حملته للترويج لها، كما اعتنقها بعض مثيري القلاقل المحافظين في مجلس النواب مثل بول ريان وإريك كانتور، بعد أن حصلوا على تنازلات مهمة.

والآن أصبحت هناك شكوك ضئيلة في أن لنانسي بيلوسي سجلا لا يُنافس في قلة الإنجازات. وفي معرض استعراض الأحداث الماضية، يبدو من الصعب فهم لماذا اختار الديمقراطيون حزبيا ليبيراليا من سان فرانسيسكو ليتزعم كلا الحزبين في مجلس النواب. وخلال مناقشة خطة الإنقاذ، استخدمت بيلوسي كل طاقتها لتستلهم روح هنري والاس، وتهاجم الاقتصادات المحافظة وتصفها بأنها «آيديولوجية يمينية تعوزها الرقابة والنظام والانضباط».

لم تكن تلك المخاطرة سهلة في البيئة السياسية الحالية. وقد أشار بعض أعضاء مجلس النواب عن الحزب الجمهوري إلى رغبة في الاستعجال من جانب المصرفيين وقيادات القطاع المالي في دوائرهم، علما بأن الاقتصاد الحقيقي في الكثير من المناطق لم يصل بعد إلى مستوى الذعر الذي يسود في «وول ستريت». وكانت ردود الفعل العامة تجاه الخطة سلبية بصورة كبيرة، وهو أمر له صلة بالانتخابات التي سوف تجري خلال ما يقرب من الشهر. وكانت هناك بعض الاعتراضات الآيديولوجية. وقد قال ثاديوس ماك كوتر، النائب الجمهوري بميتشغان: «خلال الثورة البلشفية عام 1917 كان الشعار هو: «السلم والأرض والخبز». وفي الوقت الحالي عليك أن تختار ما بين الخبز والحرية».

ولكن، بغض النظر عن ضغوطهم ومبرراتهم، فإن النواب الجمهوريين تحدثوا عن آيديولوجيتهم على أنقاض النظام المالي. ولا يماثل شراء الحكومة المؤقت لديون الرهن العقاري المعدومة تصفية المزارعين الأغنياء في روسيا إبان الثورة البلشفية. وقد تمكن المفكرون المحافظون الجادون، من أمثال ريان وكانتور، اللذان اختارا العمل من خلال العملية التشريعية، من الحصول على الكثير من التعديلات التي كانوا يرغبون فيها. ولكن لم يكن لدى معظم أعضاء مجلس النواب عن الحزب الجمهوري، الذين كانت لديهم اعتراضات أيدلوجية، شيء أفضل لاقتراحه، ولم تكن لديهم النية للقيام بذلك. واختاروا الولاء لمبادئ مجردة على الواقع العملي. تلك هي الفلسفة السياسية لشمشون: هدم المعبد بالكامل من أجل الوصول إلى نقطة سياسية معينة. وفي تلك الحالة، فإن الرئيس وقياداتهم في الكونغرس ومرشحهم الرئاسي والاقتصادي العالمي، يعانون جمعيهم من جروح ويكابدون وسط الركام. وأنا أفترض أن تلك النقطة قد تم تحقيقها. ومع ذلك فهي تذكرة بالسبب وراء عدم الثقة في أن الجمهوريين يمثلون الأغلبية في الكونغرس.

تُركت أميركا لقسم واحد من فرع واحد من الحكومة ولا يبدو أنه جيد. ويبدو أن الديمقراطيين لا يستطيعون الحصول على إجماع حقيقي في القضايا الهامة. ويبدو كذلك أن الكثير من النواب الجمهوريين بعيدون بصورة كبيرة عن الإجماع في الرأي حيال سياسات عامة كما لو كانوا يعيشون في عالم مختلف. ولذا يتعجب المرء ويتساءل هل يمكن أن يكون أي ظرف طارئ ـ باستثناء غزو الأراضي الأميركية ـ سببا في توحيدهم. وحتى حينئذ، فمن المحتمل أن تُرجِع بيلوسي الصراع إلى دبلوماسية رعاة البقر، ويحتمل أن يتحدث النواب الجمهوريون عن الثمار الطبيعية لآيديولوجية ماك جفرنر، وأن التصويت على إعلان الحرب سيكون الخاتمة.

وعلى الرغم من أنه تم تمرير بعض المساومات في النهاية، فقد أصبح من الواضح في الوقت الحالي أن النخبة السياسية الأميركية فقدت القدرة على الاستجابة سريعًا إلى تحدٍ وطني من خلال فرض الإرادة الجماعية. وما بدا يومًا وكأنه أمرٌ سياسي كالمعتاد، يبدو حاليًا كما لو كان أزمة «مواد الاتحاد الكونفدرالي»، حيث توجد حكومة ضعيفة بها الكثير من الرجال الصغار. ويجب أن يكون ذلك مبعثا للخوف بصورة أكبر في عالم يعتمد على الاستقرار الأميركي أكثر من أي فشل مصرفي.

* خدمة «واشنطن بوست»

خاص بـ«الشرق الأوسط»