برنانك يعرف ما الذي علينا أن نخافه

TT

يراودني شعور بالارتياح لأن أعرف أن بين برنانك، رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي وواضع خطة الإنقاذ المالي التي رفضها مجلس النواب ثم عاد وأجازها، متخصص في الكساد الكبير. وهو الكارثة الاقتصادية التي حلت بالولايات المتحدة ما بين عام 1929 إلى حوالي 1949، وانتهت فقط عندما دخلت أميركا في الحرب، فالذي أوقف هذا الكساد هو تحول العالم إلى حمام دماء.

أي شخص يعرف تاريخ هذه الفترة العصيبة، يجب عليه أن يتأدب، فهذا الكساد لم يكن، على أية حال، مجرد أزمة اقتصادية، بل كان أيضا أزمة سياسية وثقافية. لقد ساهم في صعود الحركات الشمولية في الخارج، في كل من أوروبا واليابان، وبعض الحركات المزعجة إلى حد ما هنا أيضا. من الصعب قياس مثل هذه الأشياء، ولكن ربما تكون أقرب دعوة إلى الديمقراطية الأميركية قد جاءت خلال الكساد الكبير.

يبدو أن الخطاب في واشنطن غافل عن هذا التاريخ. فهو يتناول الشؤون المالية فقط، ويبحث، كما يجب على أي سياسي غافل، عن المجرمين. الجشع هو المجرم المسؤول، وكأن هذا شيء جديد أو من الممكن التحكم فيه. كما تتم مناقشة المشكلة كلها وكأن الفشل لن يكون له تبعات فيما عدا تعريض بعض المؤسسات الثرية للخطر، ومديريها الأثرياء أيضا. ولكن الكساد الكبير يعملنا درسا آخر.

في جميع أنحاء أوروبا أثناء فترة الكساد، صعدت الأحزاب الفاشستية: النازية في ألمانيا، واتحاد الفاشستيين في بريطانيا، وكروا دي فو في فرنسا، الخ. وفي المناطق الأخرى تشجعت الأحزاب الشيوعية. وفقد الناس الشعور بالأمل وكانوا يبحثون عن حلول يائسة.

من الصعب أن نتخيل أن مثل هذا يحدث الآن. ولكن لم لا؟ العالم الآن أصغر مما كان عليه عام 1929، وذلك بسبب العولمة، وتتداخل أسواق المال كما لم تفعل في الماضي. أثناء الكساد، أغلقت الدول حدودها أمام اللاجئين. فكيف يتم السماح إلى المزيد من الأفراد بالدخول إلى بلد ما، أية بلد، مع وجود القاطنين بداخلها بدون عمل؟ قامت أميركا أيضا بتقييد دخول اللاجئين، على الرغم من أن العديد منهم كانوا فارين بحياتهم. في عام 1939، غادرت سفينة سانت لويس التي كانت تحمل لاجئين من اليهود من ألمانيا إلى كوبا، وعادت إلى أوروبا مجددا، لأنه لم يسمح لركابها بالدخول أية مكان على هذا الجانب من المحيط الأطلسي.

ما زال الأمر صعبا لتخيل أي من هذه الأشياء تحدث اليوم. ولكن، مجددا، لما لا؟ تغير روح العصر على الدوام. فمنذ أقل من عامين، كان الائتمان يغمر العالم، وفي خلال عدة شهور، لم يعد هناك أي منه. لقد جفت الأرصدة الائتمانية، وهبطت سوق العقارات، وفقدت عمليات الرهن العقاري قيمتها لدرجة انها لم تعد تساوي قيمة الورق التي كتبت عليه، ليس معنى هذا أن يجد هذه الأوراق أية شخص. لقد تغيرت الظروف فجأة. وإذا تغيرت الظروف أكثر من هذا، من يدري ماذا يمكن أن يحدث.

لقد حدث الكثير نتيجة لما يسمى بصراع الثقافات هنا في أميركا. تمثل قائمة ماكين ـ بالين ثقافة ما بينما يمثل أوباما وبايدن ثقافة أخرى. ولكن هذا الصراع ليس بسبب الثقافة في حد ذاتها، بل على العكس، فكيف يمكن لأم ابنتها مراهقة حامل بدون زواج، أن تكون من المحافظين بينما، يكون منافسوها، كما هو تقليدي، ليبراليين؟ الأمر ليس كذلك، فهو يتعلق بوجهات النظر المختلفة. يشعر أنصار أوباما أنهم يتحكمون في حياتهم، بينما لا يشعر أنصار بالين بنفس الثقة.

لهذا السبب شن المؤتمر القومي للحزب الجمهوري حربا على وسائل الإعلام. ولهذا أيضا تشير بالين باستمرار إلى «مستطلعي الآراء والنقاد». كان هؤلاء المتلاعبين المتخفين بالثقافة والاقتصاد، وهم جزء من النخبة التي لا تظهر غالبا والتي تجعل الأمر سيئا للغاية بالنسبة للآخرين. لقد تحكموا في الثقافة، والكلام البذيء الذي يدخل إلى المنازل عبر التلفزيون. إنهم يمتلكون البنوك والصحف وشبكات التلفزيون، ولا يهم إن كان اسمهم روبرت موردوخ، وأنهم قد يكونون محافظين. كما قال دون كيشوت: «الواقع عدو الحقيقة». ففي أوقات الشدة تصبح الحقيقة مؤلمة.

أثناء الكساد الكبير، لم يصاحب هذه الفترة بطالة واسعة النطاق، وفقر مدقع فحسب، حيث كانت هناك طوابير للحصول على الطعام، وكانت النساء تقدم صحبة قصيرة في مقابل 10 سنتات للرقصة الواحدة، بل شهدت هذه الفترة صعود هتلر وموسوليني، وفي هذه البلاد ظهر هيو لونغ والأب تشارلز كافلين، وساد بين غير العقلاء الاعتقاد بأن الشيوعية هي العلاج الملائم لما كنا نعاني منه. إن الأزمة الاقتصادية مثل الحرب، من المستحيل احتواؤها. وهي تؤثر على كل شيء تلمسه. يعرف بين برنانك كل هذا، وربما يركز على أرقام عامة من الكساد الكبير، قال فرانكلين روزفلت: «أرى ثلث السكان يعانون من قلة السكن والملبس والغذاء»، ولكن عليه أن يعرف أيضا أن هناك عواقب اجتماعية وثقافية. يمكنك، إذا أردت، أن تقول إن خطة الإنقاذ تتعلق بالمستقبل، ولكنها في الحقيقة تتعلق بالماضي.

* خدمة «واشنطن بوست»

ـ (خاص بـ«الشرق الأوسط»)