التزام الحياد لم يعد خيارا مقبولا

TT

تنطوي الأزمة الجورجية على الكثير من التطورات والمستجدات التي يجب أن تكون مصدر قلق لدول المجلس. فعلى الرغم من أن الأزمة نسجت خيوطها بعيداً عن الحدود الجغرافية لدول المجلس، إلا أن الصراع الدائر بين روسيا وجورجيا والمجتمع الدولي يُنذِر بتداعيات خطيرة من الناحية الجيوسياسية؛ ومن بينها النتائج المصاحبة للملف النووي الإيراني والدور الروسي في هذا الإطار، وهو الأمر الذي يحمل في طياته مخاطر وتهديدات أمنية جمة بالنسبة لدول المجلس. ومن ثم يتعين على دول المجلس أن تخرج عن صمتها وتتخذ موقفاً سياسياً صريحاً في هذا المضمار، لأن سياسة الحياد قد تترتب عليها نتائج وخيمة لا تحمد عقباها.

والواقع أن العلاقات بين روسيا ودول المجلس شهدت تطوراً ملحوظاً خلال السنوات القليلة الماضية، مع ازدياد حجم التبادل التجاري بين الطرفين إلى نحو ستة أضعاف منذ عام 2000 وزيارة الرئيس الروسي السابق بوتين إلى السعودية وقطر في فبراير(شباط) 2007 التي سلطت الضوءَ على العديد من القضايا لتعزيز آفاق التعاون بين الجانبين. كما توجد مصالح وقضايا مشتركة يمكن الاستفادة منها في هذا الإطار مثل جهود محاربة الإرهاب ودور الجاليات الإسلامية في الجمهوريات الروسية وإمكانية قيام روسيا ببيع معدات وأجهزة عسكرية إلى دول المجلس والتعاون في مجال الطاقة إلى جانب البرنامج النووي الإيراني الذي قد يؤثر في التوازن الاستراتيجي الإقليمي بصورة كبيرة.

فتحقيق تعاون مثمر بين الجانبين مرهون إلى حدٍ كبير بما تتخذه روسيا من مواقف على الساحة الإقليمية والدولية. فلم تهدد العمليات العسكرية الروسية في جورجيا عمليات التوسع في الطريق الاقتصادي بين الشمال والجنوب الممتد من دول المجلس إلى روسيا فحسب، بل تركت انعكاسات سلبية مباشرة على الاستثمارات الخليجية في القوقاز. فعلى سبيل المثال، تعرض ميناء بوتي، الذي تعود ملكية معظم أسهمه إلى هيئة رأس الخيمة للاستثمار، لأضرار جسيمة جراء الغارات الجوية الروسية، الأمر الذي لا يبعث برسائل مشجعة لدول المنطقة.

وفي ضوء هذه الأحداث، يتحتم على دول المجلس اتخاذ موقف واضح والتأكد من أن روسيا تُدرِك عواقب تصرفاتها على علاقاتها مع دول المجلس. وهناك ثلاث سبل لتحقيق هذا الأمر تتمثل فيما يلي:

أولاً: قيام دول المجلس بمساندة جهود الاتحاد الأوروبي لتسوية الأزمة عبر الوسائل الدبلوماسية والسعي نحو إيجاد آلية مناسبة تكون قاعدة لتحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة. ويمثل الاتحاد الوسيط الرئيسي في الأزمة الروسية ـ الجورجية بوصفه الجهة الدولية الوحيدة التي يمكن أن تسهم في إعادة أجواء الثقة بين الطرفين والحيلولة دون تدهور الوضع الأمني وخروج الصراع عن السيطرة. وجاء تشكيل قوة مؤلفة من مائتي مراقب، للتأكد من عملية وقف إطلاق النار في المناطق العازلة حول جنوب أوسيتيا وأبخازيا قبل انسحاب القوات الروسية المتوقع في العاشر من أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، كخطوة إيجابية على الطريق الصحيح لنزع فتيل الأزمة، ومن ثم يتعين على دول المجلس مساندة المساعي الأوروبية في هذا الصدد.

ثانياً: يتعين على دول المجلس توضيح موقفها للحكومة الروسية. فعلى صعيد المشهد الإيراني، يجب أن تقوم دول المجلس بإبلاغ روسيا بأن الوقت غير مناسب لاستخدام الملف النووي الإيراني كورقة للمساومة في منافستها مع الولايات المتحدة. فقد انتهكت إيران القرارات الثلاثة التي أصدرها مجلس الأمن والتي تطالب إيران بتجميد جميع أنشطة تخصيب اليورانيوم، ولذلك فإن من مصلحة المجتمع الدولي عدم تمكين إيران من امتلاك أسلحة نووية مع السعي لتسوية الأزمة الحالية بالوسائل السلمية. ويؤكد تقرير الوكالة الدولية للطاقة الذرية الصادر في الخامس عشر من سبتمبر (أيلول) بأن الوكالة «غير متأكدة من عدم وجود مواد وأنشطة نووية غير معلنة في إيران». ولذلك لا يمكن إعطاء الفرصة لإيران لتحقيق مصالح غير مباشرة من الأزمة الحالية من خلال اعتراض روسيا على اتخاذ مزيد من الإجراءات ضد طهران.

ويتعين على روسيا أن تنفي وجود أيَّ علاقة بين ما يدور في جورجيا وبين دعمها للملف النووي الإيراني، ويجب أن تقدم موسكو ضمانات كافية بأن أي جزءٍ ترسله إلى إيران في إطار أنشطة مفاعل بوشهر سيكون مخصصاً للاستخدامات السلمية فقط. ومن الأفضل أن تتوقف روسيا تماماً عن تقديم أي مساعدات نووية إلى إيران وأن تتراجع عن بيع أنظمة الدفاع الجوي الروسية إس ـ 300 إلى طهران كي لا تبعث برسائل خاطئة في وقت غير مناسب لدول المنطقة.

ثالثا: يجب على دول المجلس أن تسعى إلى تعزيز علاقاتها مع حلف الناتو في إطار مبادرة إسطنبول للتعاون، فروسيا لا تمثل بديلاً للولايات المتحدة ولا يمكن أن تأخذ دورها لتوطيد الأمن في منطقة الخليج. وعلى الرغم من المشاكل والتعقيدات التي ينطوي عليها الدور العسكري الأمريكي في المنطقة، إلا أن واشنطن لا تزال تسهم بشكل كبير في الحفاظ على سيادة واستقلال دول المجلس التي تحيط بها المخاطر والتهديدات من كل جهة. وهنا يمثل الناتو خياراً عملياً يمكن أن يساعد في تحقيق الأمن والاستقرار على صعيد المنطقة، وفي الوقت ذاته يعمل على مواجهة التوجهات الأمريكية الفردية التي لا تلقى قبولاً على المستوى الإقليمي. وتعتبر مبادرة اسطنبول منطلقاً جيداً لتعزيز آفاق التعاون الإقليمي. وحان الوقت لأن تبعث دول المجلس إشارة قوية إلى الناتو تُفصح فيها عن رغبتها في الارتقاء بالتعاون المشترك بين الجانبين في ظل مبادرة اسطنبول للتعاون وتساعد على انضمام السعودية وعمان إلى هذه المبادرة، ولكن يتعين على دول المجلس في المقابل أن تساند الناتو في موقفه إزاء الأزمة الجورجية.

وعلى الرغم من تَفهُّم الأسباب التي تدعو دول المجلس إلى التزام موقف محايد، فإن هذا الموقف لا يمثل الخيار الأمثل عندما يتعلق الأمر بقضايا أمنية واستراتيجية، فإذا أرادت دول المجلس أن تؤدي دوراً حيوياً في تشكيل معالم الأمن الإقليمي، فإن عليها أن تتخذ موقفاً واضحاً وصريحاً، وتمثل الأزمة الروسية ـ الجورجية فرصة حقيقية لتبني هذا النهج.

* رئيس مركز الخليج للأبحاث

[email protected]