انتخابات استثنائية .. لأميركا والعالم

TT

يصعب على متتبع حملة الانتخابات الرئاسية الاميركية أن لا يشعر أن هوليود ـ لا واشنطن ـ هي العاصمة الفعلية للولايات المتحدة.

وهذا الشعور يتخذ المزيد من المصداقية في الاسابيع الاخيرة للحملة الانتخابية إذ يصبح المقياس الانتخابي الابرز للمرشحين هو «الانطباع» الذي خلفه المرشح في أوساط الناخبين وعلى صفحات الجرائد، فيطغى تقويم إطلالة المرشح التلفزيونية ـ وعمليا قدرته على «التمثيل» ـ على طروحاته ويتحول الناخب الاميركي الى متتبع لمسلسل تلفزيوني حي ويصبح وقع «الامتحانات» المتلفزة على الجمهور المؤشر المرجِح لفرص هذا المرشح أو ذاك في الوصول الى البيت الابيض.

على غرار الحملات الانتخابية السابقة، لايزال «العرض المسرحي» مستمرا في الولايات المتحدة ومتنقلا من ولاية الى أخرى، ومازال الاعلام يتلهى بالتركيز على سطحيات المعركة مثل طابع «الهدوء» الذي يوحيه المرشح باراك أوباما مثلا وبوادر «قلة الخبرة» التي تبديها المرشحة سارة بالين و«الانفعالية» التي يظهرها أحيانا المرشح جون ماكين.

إلا أن كل هذا التركيز على السطحيات في الحملة لا يخفي أن انتخابات العام 2008 قد تكون الانتخابات الرئاسية المرشحة أكثر من سابقاتها لأن تحسم سلة قضايا تواجهها الولايات المتحدة، قبل الأداء العلني لمرشحي الرئاسة.

بالمقارنة مع اليوم، لم تكن المعركة الرئاسية السابقة، عام 2004، أكثر من «نزهة انتخابية»: آنذاك كانت القضية الطاغية على أذهان الاميركيين هاجس تكرار الاعتداءات الارهابية التي تعرضوا لها في 11 سبتمبر 2001. وأولويتهم المطلقة كانت إختيار المرشح الاقدر على التصدي لها قبل ان تضرب الداخل الاميركي من جديد. وعليه لم يكن صعبا اختيار جورج بوش كرجل المرحلة وبطل مقارعة الارهاب.

أما اليوم، فان الصورة مختلفة تماما عن عام 2004 وشؤون الولايات المتحدة وشجونها باتت معقدة بحيث لم يعد في الامكان الحديث عن أزمة رئيسية واحدة تستقطب الاهتمام الشعبي وتنتظر البطل المناسب لمواجهتها.

انتخابات العام 2008 تجري والولايات تعيش أسوأ أيامها ربما منذ تفجر حربها الاهلية عام 1861: الوضع الاقتصادي متعثر، سوق المال متدهور، معدل البطالة مرتفع، الحرب في افغانستان مقلقة، المواجهة مع ايران تخبو وتتقد ولكن المشكلة (النووية) باقية. ورغم التحسن المسجل على الصعيد الامني في العراق لا يبشر الوضع فيه بعودة قريبة للجنود الاميركيين الى عائلاتهم.

مشاكل الولايات المتحدة المالية والاقتصادية المتفاقمة تحمل على الاعتقاد بان الدولة الاعظم في العالم ربما بدأت مسيرة التراجع عن عرش زعامة العالم، ان لم يكن قد بدأت مسيرة الترهل على اعتبار أن القاعدة الصلبة لزعامتها هي اقتصادها، أولا وأخيرا.

أزمة «وول ستريت» لا تبدو حتى الآن أزمة نظام رأسمالي بقدر ماهي أزمة عولمة هذا النظام. والسؤال الذي يطرح نفسه اليوم قد يكون: هل جنى اقتصاد الولايات المتحدة مكاسب من العولمة أم أن العولمة جنت عليه في اندفاعها التوسعي المنفلت من كل قيد او رابط مركزي؟

قد تجوز في هذا السياق مقارنة العولمة الاقتصادية بالعولمة السياسية في الولايات المتحدة، فبعد انهيار الامبراطورية السوفياتية تحول دعم واشنطن السياسي والمعنوي «للمنشقين» على الانظمة الماركسية في أوروبا الشرقية، في الثمانينات، إلى اندفاع غير محسوب العواقب، عام 2003، لـ«عولمة» الديمقراطية ـ ولو بالقوة ـ في الشرق الاوسط.

ولكن، كما افرز عصر رونالد ريغان في الولايات المتحدة وعصر مارغريت ثاتشر في المملكة المتحدة ردة فعل ليبرالية على النهج السياسي اليميني في الغرب، قد تفرز أزمة العولمة ردة فعل إقتصادية مماثلة على الدوغماتيكية الرأسمالية الموروثة عن جون ماينارد كينز.

وبانتظار هذه النقلة النوعية في مضمون الاقتصاد الرأسمالي الاميركي لم يعد المطلوب من الانتخابات الرئاسة الاميركية إيصال مرشح شعبي أو «كاريزماتيكي» إلى البيت الابيض بل مرشح مستعد للاستعانة بمجموعة ابحاث (Think Tank) قادرة على إعادة انتاج النظام الرأسمالي الاسلم أداء وطرح رؤية مستقبلية لدور الولايات المتحدة على الساحة الدولية.. طالما بقيت القاطرة الاولى للاقتصاد العالمي.