عذراً كارل.. الرأسمالية لا تحتضر

TT

في واحدة من المصادفات التي تضيف نكهة خاصة إلى الأحداث، تزامن تمرير الكونغرس الأميركي خطة الإنقاذ المالي بقيمة 700 مليار دولار مع الذكرى الـ160 لإعلان بيان الحزب الشيوعي.

وكما تعلمون جميعاً، فإن هذا المجلد الصغير الذي وضعه كل من كارل ماركس وفريدريك أنجلس عام 1848 يعد بمثابة ترنيمة تتغنى بقرب نهاية حقبة الرأسمالية وبزوغ فجر الحقبة المثالية الشيوعية. لذا، لم يكن مثيراً للدهشة أن يحاول بعض المعلقين النظر إلى المشكلات الراهنة داخل القطاع المصرفي بالاقتصاديات الغربية الكبرى باعتباره تحققاً للتكهنات الواردة في البيان.

على سبيل المثال، أعلنت صحيفة ليبراسيون اليومية الفرنسية التي تعبر عن التيار اليساري أن: «الرأسمالية تحتضر». وأخبرني أحد أصدقائي البريطانيين ممن قضوا الجزء الأكبر من حياتهم في محاربة الشيوعية: «ربما كان ماركس محقاً بعد كل هذا. أنا أنوي معاودة قراءة البيان».

حسناً، في الحقيقة إن قراءة ومعاودة قراءة بيان الحزب الشيوعي تمثل مصدرا بالغا للاستمتاع. من جانبي، قرأت هذا البيان للمرة الأولى منذ ما يزيد على أربعة عقود عندما كانت مجرد حيازته بإمكانها الدفع بالمرء إلى السجن في إيران في ظل حكم الشاه. وقد وجدت البيان يحمل طابعاً شعرياً منذ السطر الأول، الذي يقول: «شبحاً يتملك أوروبا.. إلخ». إلا أنه عندما أعدت قراءته اليوم التالي حتى لا أبدو غير ملم بما ورد فيه حال الدخول في مناقشات بشأنه مع أصدقائي وأقاربي، اتضح لي أنه يتسم بلغة طنانة مثلما الحال مع أسوأ أنماط الكتابات الدينية.

في الواقع، إن نمط الرأسمالية الذي يتوقع ماركس وأنجلس خلال هذا المجلد الصغير اندحاره لم يعد له وجود، بافتراض أنه وُجد في الأساس في أي وقت من الأوقات، ذلك أن العالم الآن ليس منقسماً بين طبقة بروليتارية فقيرة تتعرض للاستغلال بصورة متزايدة وتشكل 99% من السكان، وطفيليين برجوازيين يشكلون الواحد بالمائة المتبقية ويعيشون على امتصاص دماء البشر. كما أن الاقتصاد العالمي لا تهيمن عليه حفنة من الكيانات الاحتكارية والتكتلات العملاقة، مثلما نعتها ماركس، بإمكانها تحديد جميع الأسعار، وكذلك ظروف العمل.

ومع ذلك، ما من شك في أن الرأسمالية العالمية تمر في الوقت الراهن بأزمة كبرى. لكن كيف حدث ذلك؟ ألم يعلن رئيس الوزراء البريطاني غوردون براون، المعروف بكونه عقلية اقتصادية عظيمة، في العام السابق أن حقبة «المد والانحسار» الاقتصادي ولت إلى غير رجعة!!

كما هو الحال دوماً عند مواجهة لغز سياسي محير، فإن أفضل من يمكننا استشارته هو أرسطو، ذلك أن هذا الفيلسوف اليوناني القديم، والمعروف لدى تلاميذه من المسلمين باسم «المعلم الأكبر»، تمتع بموهبة فطرية في صياغة القواعد العامة.

ومن بين القواعد العامة التي صاغها أرسطو أن: «كل نظام يفسد حال الإفراط في مبدأه الرئيس»، بمعنى أن الحب المفرط يقتل الحب، وأن التدين المفرط يقتل الدين. وبالنسبة للوضع الحالي، فإن رأس المال المفرط يقتل الرأسمالية.

ومن خلال اتباع هذه القاعدة التي أرساها أرسطو، تمكن الفلاسفة المسلمون، بدءاً بالفارابي وابن سينا، من صياغة نظريتهم حول الاعتدال والتي تقوم على أن أي ظاهرة تقضي على نفسها من خلال التطرف في استغلال إمكاناتها. لذا، فإنه من المهم معرفة إلى أي مدى يمكن للمرء أن يمضي قُدُماً ومتى عليه أن يتوقف.

والآن دعونا نتعرف على كيف يمكن أن يساعدنا هذا التحليل على تفهم الأزمة الراهنة. ودعونا نبدأ ببضعة أرقام. قرب نهاية فترة رئاسة جيمي كارتر عام 1979، استقر مؤشر داو جونز لقيمة الأسهم عند مستوى اقل من 1000 نقطة، بينما في وقت سابق من هذا العام، تأرجح المؤشر حول مستوى 14.000 نقطة تقريباً، بزيادة مقدارها 14 ضعف في غضون ثلاثة عقود فحسب. عام 1979، كان ما يزيد قليلاً عن 5 ملايين أميركي يمتلكون أسهما. أما الآن، وبعد مرور ثلاثين عاماً، ارتفع هذا العدد إلى ما يقرب من 60 مليون شخص، بما في ذلك الملكية غير المباشرة عبر صناديق المعاشات. في الوقت ذاته، ارتفعت أعداد من يمتلكون منازلهم من 17% إلى ما يتجاوز 40%. وللمرة الأولى في التاريخ، على الأقل داخل الولايات المتحدة، تألفت الغالبية بين السكان من رأسماليين، بمعنى أفراد يمتلكون رؤوس أموال.

لكن ما الذي جعل مثل هذه الدمقرطة الدراماتيكية لرأس المال أمراً ممكناً؟ تمثل أحد مصادر رأس المال الجديد في النفط، والذي أثمر كميات هائلة من النقد التي عجز المصدرون عن استغلالها داخل اقتصادياتهم. وطبقاً لمعظم التقديرات، فإنه على امتداد العقود الثلاث سالفة الذكر، ضخت الدول الغنية بالنفط ما يزيد على تريليون دولار داخل الاقتصادات الغربية. ثم جاء تحويل الصين لعمالتها الرخيصة إلى أموال نقدية، ثم إيداعها هذه الأموال في مصارف وسندات حكومية غربية. بحلول عام 2007، انضمت الصين إلى صفوف أربع اكبر جهات مستثمرة داخل الولايات المتحدة، حيث امتلكت أصولا أميركية بقيمة 400 مليار دولار.

وترتب على كل ذلك أن المواطن الأميركي العادي لم يعد بحاجة إلى الادخار كي يُبقي على عملية تكون رأس المال، وإنما كل ما كان عليه فعله هو إنفاق أموال تخص آخرين، بينما قام العرب والصينيون والروس وأبناء أميركا اللاتينية، بل والأوروبيون، بعملية الادخار تلك بدلاً منه. بيد أن الأمور لم تنته عند هذا الحد، حيث مرت المصارف الاستثمارية وشركات السمسرة بمرحلة من الإبداع والابتكار غير مسبوقة على مر التاريخ، حيث قامت بتحويل الديون القائمة بالفعل إلى مصادر جديدة للاعتمادات، ثم استغلت تلك الاعتمادات في خلق رؤوس أموال أخرى وطنية جديدة، بمعنى أن ما تدين به للآخرين، لو تم بيعه لطرف ثالث، ربما يتحول إلى رأس مال بالنسبة لك.

في الوقت الذي كان يجري في كل ذلك، تحدث رئيس مصرف الاحتياطي الفيدرالي، آلان غرينسبان، عن «وفرة غير منطقية»، في الوقت الذي فعل كل ما في وسعه للتشجيع عليها. فمن خلال الإبقاء على معدلات الفائدة عند أدنى مستوياتها على الإطلاق، دفع مصرف الاحتياطي الفيدرالي، ومن خلفه المصارف المركزية الأخرى، عملية دمقرطة رأس المال إلى حدود لم يكن باستطاعة أي اقتصاد الحفاظ عليها لفترة طويلة.

لقد فقد رأس المال قيمته، جراء توافر إمكانية الحصول عليه بسهولة مفرطة. على سبيل المثال، شاهدت على شاشات التلفزيون لقاء أُجري مع رجل أميركي، ربما من ولاية ميسوري، تساءل في دهشة عن كيف وافقت المصارف على إقراضه نصف مليون دولار لشراء مسكن فاخر.

وتكمن الإجابة على هذا التساؤل في أنه عندما تتوافر لديك كميات مفرطة من رؤوس الأموال، تتعزز لديك موهبة العثور على مقترضين وليس مدخرين. لقد رغبت المصارف في التخلص من جميع الأموال التي على عاتقها، وشعرت بالحب تجاه من يقترضون والكراهية تجاه من يدخرون. والآن، نشهد انتقام رؤوس الأموال التي أُهينت وأُسيء استخدامها. وتطالب رؤوس الأموال الآن بأن نعاود احترامها من جديد.

وينقلنا هذا إلى الفيلسوف نيتشه، والذي رغم أنه لا يقارن بعظمة أرسطو، فإنه تميز هو الآخر بقدرته الكبيرة على صياغة القواعد العامة، فعلى سبيل المثال، قال: «ما لا يقتلني، يزيدني قوة»

عُذراً يا كارل، إن الأزمة الحالية لن تقتل الرأسمالية، وإنما ستزيدها قوة.