الأزمة المالية العالمية.. والتأثيرات على الشرق الأوسط

TT

كان لبنانيٌّ يسألُ آخَر على سبيل النكتة: ما علاقةُ الحشود السورية على الحدود اللبنانية بالأزمة المالية العالمية؟ وأجابه الآخَرُ مُزايداً في السخرية: علاقتها مثل علاقة أزمة دارفور بالصراع على فلسطين! وينطلق الساخرون من ترابُط العالَم أوضاعاً وأحداثاً إلى الحدود التي يصبحُ فيها كل شيء ذا علاقةٍ بأي شيء!

وقد كانت السياسات الأميركية في الأعوام الثمانية الماضية ذات علاقةٍ بالفعل بالفوضى العالمية؛ وذلك بثلاثة أشكال: الدول التي أشركتها وشنطن معها في حركتها العالمية، والدول التي أثارت فيها وشنطن الاضطراب، والدول التي أثار الاضطراب الأميركي مطامحَها أو جنونَها.

بالنسبة للشكل الأول، ما بقي أحدٌ في العالَم صديقاً للولايات المتحدة وحليفاً بكلّ معنى الكلمة غير بريطانيا في عهد توني بلير. وقد بلغ من حماسه لوشنطن أنه عاضدها حتى في الأكاذيب المتعلقة بالنووي والكيماوي والعلاقة بالإرهاب. ولستُ أدري ماذا استفاد بلير شخصياً وسياسياً من وراء ذلك؛ لكنه استفاد ولا شكّ في المسائل الاقتصادية، وفي المشاركة في التخطيط قبل الغزو وبعده. بيد أنّ مشاركته في الحرب وبعدها، ما جاءت بالخير لا على بلير ولا على بريطانيا. إذ ما يزال البريطانيون مشغولين بفضحّ أكاذيب الحكومة السابقة، كما أنّ جنودهم بالبصرة فقدوا المئات خلال أربع سنوات؛ في حربٍ قالوا أخيراً إنه لا ناقة لهم فيها ولا جَملَ! وأخيراً فإنّ انفضاح أكاذيب بلير أسهم في إزالته والمجيء ببراون، ودبَّروا لبلير وظيفة مبعوث للشرق الأوسط أو النزاع الفلسطيني- الإسرائيلي، دونما جدوى!

وهناك نوعٌ آخَر من الدول أفاد من الهجمة الأميركية على أفغانستان والعراق. وهؤلاء منهم مَثَلاً إسرائيل. لكنْ بينهم أيضاً وعلى الخصوص إيران.

إسرائيل اعتقدت أن الحربَ على الإرهاب تُفيدُها في فلسطين ومع حماس، وبخاصةٍ أنه أمكن لها أن تُبرهن للولايات المتحدة أن عرفات مُشاركٌ شخصياً في الإرهاب ضدَّها. وهي تستطيع أيام بوش اليميني والإنجيلي أن تزيد من الضغط على عرفات فأبو مازن. كما تستطيع شنّ حربٍ لا هوادةَ فيها ضدَّ حماس. وجاءت الحيلةُ الكبرى من شارون عام 2004 عندما أعلن عزمه على الانسحاب من غزّة منفرداً لأنه لا شريك فلسطيني في عملية السلام. بيد أنّ أهمَّ ما أفادت منه إسرائيل أمران: الحرب على الفلسطينيين باعتبارها جزءاً من الحرب على الإرهاب، وغزو العراق باعتبار أنّ أعداءَها سينقصون واحداً. وقد أمكن لليهود بالفعل أن يؤخّروا محادثات السلام منذ العام 2002 وحتى العام 2007 وبمساعدةٍ دائمةٍ من الولايات المتحدة. لكنْ في المدى الطويل: هل أفادت إسرائيل من هذه الأوحدية الأميركية بالفعل؟ إذا كان السلامُ والدولة الفلسطينية ضروريَّين لبقاء إسرائيل؛ فإنها تكونُ ما أفادت شيئاً. وبانهيار الدولة العراقية انفتحت أبواب جهنَّم على سائر المنطقة ومنها إسرائيل. فالقاعدة وإيران والنظام السوري؛ كل هذه الأطراف دخلت إلى العراق، وكلُّها تدعي العداء لإسرائيل، ولماذا ستُسَرُّ الدولة العبرية إذا قويتْ سورية حتى في حالة السلام معها؟!

ولننظر إلى الدول التي أفادت من الغزو الأميركي، وفي طليعتها إيران. طبعاً لا يمكن اعتبارُ إيران صديقاً أو حليفاً للأميركيين. لكنّ الإيرانيين استُشيروا مباشرةً أو بالواسطة بمسألة الغزو. وما ردُّوا بالإيجاب لكنهم سمحوا للتنظيمات العاملة عندهم ضد النظام العراقي أن تدخل مع الأميركيين من ناحية كردستان. وكانوا قد ساعدوا حلف الأطلسي في الصراع في أفغانستان. ومصلحة إيران في زوال نظامي حكم طالبان وصدَّام، ثم إن مصلحتها أن تمتدَّ على مدى البصر، وفي غرب المتوسّط. وقد فعلت كلَّ ذلك بأقلّ من سنة. فهناك عدةُ أمورٍ أفادت منها إيران مباشرةً أو بشكل غير مباشر: سقوط حكومتي طالبان وصدَّام، وهناك الخطوط الأميركية التي امتدّتْ عليها إيران دون أن تلقى معارضة. وهناك أخيراً التشييع الطائفي، من حيث إنّ أجزاء أساسية في الطوائف الشيعية بالمنطقة العربية تبعت إيران من الناحية الدينية والناحية السياسية. بينما تبعتها حماس بغزة من الناحية الدينية والسياسية أيضاً.

وهناك النوع الثالث من الدول الذي تتراوح خطواتُهُ بين السلوك الطامع، والآخر الجَموح أو المؤذي. بالنسبة للدول ذات الطمع هناك إسرائيل والهند والصين وإيران وأُخريات. وهذه الدول لا تتفق طبعاً في كلّ الأهداف. بالنسبة لإسرائيل والهند والصين، فالفائدة في تغيير البيئة الاستراتيجية، بحيث تصبحُ ديناً واحدة، ولهذه الدول شريكٌ واحدٌ هو الولايات المتحدة. الصين انزعجت الآن لأنها حملت ما يزيد على التريليون دولار في الأيدي في السنوات الماضية، وما حسبت حساباً مستقبلياً. ثم إنها بعد أحداث جورجيا أعلنت تأييدها لروسيا. وهذا أقصى ما تستطيع الولايات المتحدة فهمه ليبدأ بعدها العدّ العكسي والإنذار بالعودة للحرب الباردة التي لن تعود أبداً لعدم توافر شروطها. فما يحتاجُ إليه العالم اليوم، كما يقول الشيعة: الإمام المعصوم، والمنقذ من الضلال.

وتبقى الدول التي أثار الغزو الأميركي على مقربةٍ منها جنونَها أو هياجها. هؤلاء شعروا بالإثارة وبخاصةٍ أنّ الولايات المتحدة ما تركت شكوكاً بشأن تصرفها كما تشاء في العالم، لحماية مصالحها، وحماية العالَم من الإرهاب. وأولُ الذين أثارت غضبهم السياسات الأميركية الروسُ بالتحديد. فقد عانى هؤلاء بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، من فوضى عارمة، أمكن تجاوُزُها. لكنّ الولايات المتحدة حضرت خلال ذلك في البلقان وفي شرق أوروبا بالإضافة إلى الشرق الأوسط. وحاول الروس طويلاً أن يستعيدوا بالعسكر ما خسروه بالدبلوماسية؛ لكنّ ذلك كان عبثياً لأنّ الأميركيين كانوا يحيطون بهم من كلّ مكان، ويريدون جرَّ الجميع إلى النزال إن أمكن، ليثبتوا أن العالم تغيَّر، وأنه واقعٌ تحت سيطرتهم.

وبدأت ردَّةُ الفعل على الولايات المتحدة قبل سنتين ونيّف. وليس من خلال القاعدة وإيران وحسب؛ بل ومن خلال الدول الأوروبية واليابان والهند، وقبل ذلك وبعده: روسيا. الدول الأوروبية الرئيسية – باستثناء بريطانيا - ما وافقت على غزو العراق. وهي لا تشارك حتى الآن في عمليات إعادة الإعمار. أمّا الغاضبون الحقيقيون فهم الروس، وقد غَزَوا جورجيا على سبيل الرمز، وإلاّ فالمشكلات في مكانٍ آخر مثل مشروع الدخول إلى حلف الأطلسي من جانب دول بشرق أوروبا. ومثل القواعد الأميركية في دول بآسيا الوسطى، بحجة أفغانستان.

لقد كان كشفاً موجزاً بتأثيرات الهجمة الأميركية في السنوات الماضية على ما جرى ويجري في بلداننا. واليومَ فإن النظامَ السوريَّ ليس أقلَّ قلقاً مما كان عليه عام 2003، بعد أن صار معذوراً في عدم ترك المتسللين يدخلون إلى العراق. كان السوريون مستكينين للعلاقات المستجدة مع الإسرائيليين، ويصعُب عليهم تصوُّر تطبيع كامل مع العدو أو معاهدة سلام. وعلى هذا الكلام اعتمد الرئيس الأسد حتّى الآن في مقاربة المسألة مع طهران، دون أن ترضى إيرانُ بذلك. والجديد الجديد أن هذين الطرفين الإقليميَّين ما عادا ينسِّقان فيما بينهما، وتتهم كُلُّ منهما الأُخرى سراً في العداء لها.

وكان المراقبون قد بدأوا يستقرئون المستقبل من خلال استطلاعات الرأي الخاصة بأوباما وماكين. وفي اعتقادهم أنّ ماكين يعني استمرار سياسات التحدي رغم الخسائر الهائلة؛ بينما يعني أوباما الانكفاء التدريجي لكن الضروري وليس من العراق فقط؛ بل بعد هزيمة القاعدة من أفغانستان أيضاً.

وهكذا فإنَّ الولايات المتحدة هجمت فنشرت فوضى عظيمة، وربما تكون الفوضى في حالة الانكفاء أكبر وأعظم. وكما هو شأن إيران منذ ثلاث سنوات فهي تعتبر كل تصريحٍ أو كلامٍ لأيّ أحد إنما هو انتصارٌ لها على أميركا وإسرائيل! ولذا فإنّ المفهوم أنّ الانسحاب الأميركي سوف يفسح المجال للتنافس على سدّ الفراغُ، أو على الكسْب هنا أو هناك. وهذا يعني عدة حروبٍ إقليميةٍ لتصحيح المواقع والمواقف، واستكشاف المعالم الكبرى للمرحلة المقبلة.

بالأمس كرّر بول كنيدي ما سبق أن قاله في كتابه: صعود الإمبراطوريات وسقوطها من أنّ غالبية الدول الكبرى إنما سقطت بفعْل عدم القدرة على تحمُّل الأعباء، هذا ما أصاب الولايات المتحدة في سائر أنحاء العالم في السنوات الماضية. بيد أنّ الأوروبيين واليابانيين يقولون الآن إنّ الولايات المتحدة عاشت دائماً على حسابهم وحساب العالم. بيد أنّ السيّد والمسود غارقان الآنَ في الأزمة الساحقة، وما فيهم إلاّ مُصابٌ وإن اختلفت الدرجة. والشرق الأوسط في عين الإعصار!