خصخصة الحروب

TT

تعددت عمليات القرصنة بوتيرة متسارعة في الشواطئ الصومالية، محدثة ما اعتبره الرئيس نيكولا الفرنسي ساركوزي الخطر الأكبر الذي يواجه حركة الملاحة الدولية في منطقة بادية الأهمية الاستراتيجية (خليج عدن الذي يربط بين البحر الأحمر والمحيط الهندي). وقد تعرضت في الأشهر الماضية 55 باخرة للاختطاف من مجموعات من القراصنة الصوماليين، الذين لا يبدو ان لهم أهدافا سياسية صريحة، حتى ولو كان بعضهم صرح بأن الفدية المالية التي يطلبون هي جزء قليل من التعويضات التي يستحقها الشعب الصومالي مقابل نهب ثرواته السمكية وانتهاك سيادته الإقليمية على شواطئه المستباحة.

وعلى الرغم من خصوصية الحالة الصومالية، حيث غياب الدولة المركزية منذ عقدين، الا ان الحالة ليست خاصة بهذا البلد الممزق المنكوب، بل تحيل الى ظاهرة أوسع هي «خصخصة الحرب» التي تتخذ أشكالا متباينة بحسب اختلاف الساحات والظرفيات.وما يجمع بين هذه الحالات المتمايزة هو أنها تطرح أسئلة عميقة وخطيرة على هوية ومستقبل الكيانات الوطنية، إذا تذكرنا تعريف عالم الاجتماع الألماني المشهور ماكس فيبر للدولة بأنها «السلطة التي تحتكر العنف المشروع». ولنبادر بالتمييز بين ثلاث حالات من خصخصة الحرب هي: استقواء الجيوش النظامية بشركات الأمن الخاصة، والدور المتزايد للمجموعات المسلحة المستقلة في امن الدول، والعصابات المسلحة المنظمة الناشطة في البلدان المفككة.

أما الظاهرة الأولى فتبدو جلية في الساحة العراقية اليوم، حيث تنشط 180 شركة أمنية بحسب تقديرات الصحافة الأمريكية، هي في الغالب وكالات يتعامل معها الجيش الأمريكي، ويعهد إليها بمهمات تتأرجح بين التموين والحراسة والتكوين الى المشاركة في الاستجوابات وعمليات القتال. ويعتقد ان نصف العاملين في الجيش الأمريكي هم من منتسبي هذه الشركات الأمنية الخاصة، التي بدا الحديث يعلو عنها عام 2007 عندما تعرضت إحداها (شركة بلاك ووترز) للمدنيين العراقيين فقتلت العديد منهم وجرحت العشرات، مما سبب نقمة عارمة في الشارع العراقي. ويعتقد أن للوكلاء المسلحين الخاصين الذين لا يحسبون في كشوف الضحايا الأمريكيين دورا رئيسيا في عمليات تعذيب السجناء العراقيين وفي جرائم انتهاك حقوق الإنسان التي انتشرت على نطاق واسع منذ الاحتلال.

ومع أن ظاهرة  توظيف المرتزقة والاستقواء بهم في الحروب قد أبطلت شرعيا في القانون الدولي الذي لم يعد  يعترف  بالإطار الشرعي للحرب خارج نطاق سيادة الدول، إلا أن الاستراتيجية الدفاعية الأمريكية بدأت منذ الثمانينات خطة طموحة للتقليل من نفقات التسلح بإحالة كثير من المهمات الثانوية للشركات الخاصة، فوقعت ما بين 1994 و2004 ثلاثة آلاف صفقة معها بتمويل تجاوز 300 مليار دولار، قبل ان تصبح هذه الوكالات طرفا شريكا في مهمات الحرب الخارجية (خصوصا في العراق وأفغانستان).

أما الظاهرة الثانية فتبدو جلية في الساحة الروسية، التي شهدت بعد انهيار التجربة الشيوعية وتفكك الدولة السوفياتية اندلاع موجة عاتية من العنف وانتشار شيكات الجريمة المنظمة التي ثبت ارتباطها الوثيق بالنقلة السريعة العشوائية من الاقتصاد المخطط الى الاقتصاد الخاص الذي غدت تتحكم فيه المافيات المالية المحلية والدولية، مما اقتضى تنامي شركات الأمن الخاصة التي تؤدي دورا مزدوجا من حيث هي ذراع القوى المالية الصاعدة ووكيل الدولة في مرحلة انهيار الأجهزة الأمنية الآيديولوجية السابقة التي خضعت لإعادة بناء طويلة اكتملت  في عهد الرئيس السابق بوتين.ولا يقتصر الأمر هنا على الحالة الروسية، بل نجد الظاهرة نفسها في العديد من البلدان الأخرى، خصوصا في الدول النفطية والمعدنية التي تنشط فيها الشركات الكبرى التي لا تجد الحماية الكافية من الجيوش النظامية المحلية.

أما الظاهرة الثالثة فتبدو واضحة في البلدان الأفريقية التي تحللت فيها الدولة أو أصبح حضورها هشا محدودا، كما هو حال الكونغو والصومال والسيراليون.. ففي هذه البلدان التي من بينها دول غنية بالنفط والمواد الأولية تنشط المجموعات المسلحة الخاصة والمنظمة التي تلجأ اليها المؤسسات والشركات الدولية، بل والحكومات أيضا من اجل تأمين مصالحها الحيوية، في الوقت الذي يتحكم فيه أمراء الحرب في اقطاعات تشكل نمطا من الدويلات المستقلة، التي لئن كانت لا تنال الاعتراف الخارجي، إلا أنها حلقات فاعلة في حركة التجارة الدولية المعولمة (كدولة الصومال لاند ودويلة بوكايو في الكونغو التي يديرها العقيد تشكرام).

لا يتعلق الأمر إذن بأزمات ظرفية أو بمصاعب انبناء الكيانات المركزية في «الدول الفاشلة» حسب المصطلحات الاستراتيجية الأمريكية، بل بتحول نوعي في مفهوم الحرب ذاتها من حيث علاقتها بالدولة الوطنية.