القومية النقدية العالمية في مواجهة الدولة

TT

اضطرابات أسواق المال والاقتصاد، تواجه البشرية بتحديات لا تقل خطورة عن اوبئة القرون الوسطى كالطاعون، والحروب العالمية، وتهدد بقاء الدولة القومية كنظام سياجتماعي ضروري لاستقرار العالم.

القانون الدولي سياسيا، واشكال وانظمة وقواعد السوق الحر والتجارة العالمية وقوانين التبادل النقدي، مبنية على نظام الدولة القومية الحديثة كأرقى نظم الحكم التي عرفتها البشرية. الدولة مستقلة عن نفوذ الكنيسة، والعشائر والطوائف، بدستور عقد قانوني Legal contract يحدد علاقة المواطن بالدولة، ودوره في تغيير الحكومة عبر صناديق الاقتراع، وفي خلق القوانين وتعديلها وتطويرها ـ عبر ممثليه البرلمانيين ـ بغرض حفظ حقوقه كالحرية المدنية وحرية التعبير وحرية الملكية الفردية، وحق التصرف في ماله.

معظم التحديات التي هددت سيادة الدولة القومية، وبالتالي الاستقرار العالمي، اغلبها ايدولوجية، عابرة للحدود، وهو ما عطل تحول الامم المتحدة، بعد الحرب الباردة، الى الصيغة التي رآها سكرتيرها العام ( 199-19916) المحامي الدولي الدكتور بطرس بطرس غالي، كمجلس ادارة شركة العالم المساهمة.

الحرب العالمية الثانية سببها الايدولوجية الشمولية بشقيها النازي والفاشي، وخطة ادولف هتلر صهر مجموعة دولة قومية في قومية متفوقة من الجنس الآري تشمل البيض فقط بنسبة ذكاء عال، خاليين من الامراض، غير معاقين جسميا من الالمان والنمساويين والتشيكيين وشمال اوروبا. وخطورة هذه الايدولوجية تكمن وراء رفض امم اوروبية عانت من النازية لتوحد اوروبا كفيدرالية عظمى بقومية شمولية، عنصرية تغلق الحدود في وجه مهاجرين من اعراق اخرى.

بعد الحرب ظهرت القوميات الايدولوجية ideological nationalism كمهدد للدولة القومية كالبعث (القومية العربية)، كأيديولوجية شمولية عنصرية عابرة للحدود، ادت لغزو صدام حسين للكويت وتصفية عرقية للاكراد، واهدار الديكتاتور المصري الراحل الكولونيل جمال عبد الناصر لموارد الامة لمصرية في مغامرات كالوحدة مع سورية، وتمويل عصابات التمرد ضد النظم الملكية (لان النظم الملكية ضمان لاستقار الدولة القومية) وارسال الجيش المصري لحرب اليمن.

السلاح النووي أدى لنظرية التدمير التبادلي الشامل mutual destruction ، فانهى دور الحروب في حسم الانتصار، فتحولت عوامل المال والموارد (كالبترول والمياه والغاز الطبيعي) الى اسلحة في حروب ايدولوجية السيطرة على العالم.

وزحفت «كفيروسات» متكاملة الذكاء تنتشر، داخل هذه الايدولوجيات، تمنحها القدرة للقضاء على الدولة القومية لصالح كيان كوني هو القوميات الاقتصادية.

في رواية الخيال العلمي العلمي «سارقو اجسام البشر» The Body Snatchers للكاتب الامريكي جاك فيني (1911- 1995)، تصل مكونات حامض ننوي من كوكب آخر، تبدا بالاستيلاء على جسم الشخص الحي، ثم أسرته ثم المدينة في خطة محكمة تبقي العالم كما هو ظاهريا بالاجسام البشرية المعتادة، لكن المضمون جنس من كوكب آخر.

قبل ثلاثين عاما، حذر زكي يماني، وزير البترول السعودي السابق من سيطرة القومية البترولية Oil nationalism على الاوبيك (منظمة الدول المصدرة للبترول) بسيسات راديكالية متهورة تزعمها الوكولونيل معمر القذافي، وايران مابعد الثورة الاسلامية، فخلقت جوا عدائيا ضد العرب لدي الرأي العام الغربي.

وكفيروس رواية فيني، تسربت موارد وثروات من القومية البترولية الى اخطر ايدولوجية شمولية حاليا «لقومية الجهادية الاسلاموجية» Global Jihadist Islamic nationalism ، وجزء من محاربتها هو كشف وسائل غسل اموال ودعم منظمات كالقاعدة من خلال لوائح تنظيم انتقال السيولة النقدية عبر القارات.

اليوم نواجهGlobal Fiscal nationalism اي القومية النقدية الكونية. ورغم ان اهدافها ليست شريرة كالنازية والبعث والقاعدة، لكنها تهدد سيادة الدولة القومية كسارقي الاجسام في رواية فيني.

فدور الدولة حماية مصالح المواطن. فالفرد، دافع الضرائب، المستثمر- كصاحب ورشة او متجر- او مدخر – ولو بحفنة دولارات - والمستدين لشراء المسكن من مؤسسات الضمان العقارية، والمستهلك ببطاقات الائتمان، او ببضعة جنيهات شهريا لا لمعاش، او في بوليصة تامين يصرفها اولاده بعد موته، هو نفسه الناخب الذي يستطيع فصل الحكومة من العمل وينتخب حكومة اخرى.

قلق الناخب/المستهلك/المدخر/المستثمر/المستدين، اصاب زعماء الدول الصناعية الكبرى بالارق المستمر. (مكتب رئيس الوزراء استدعانا كصحفيين لمؤتمره الصحفي الطارئ باليميل ورسائل التليفون النقال فجر الاربعاء).

اتفاقيات الاتحاد الاوروبي تضمن ليبرالية الاقتصاد وحرية المنافسة فتمنع اي حكومة من التدخل بضمانات او تسهيلات تجعل مؤسساتها المالية اكثر جذبا للزبون من منافسيها في بقية بلدان اوروبا.

ضربت الحكومات قبل ايام باتفاقيات اوروبا عرض الحائط، لحماية مؤسساتها المحلية من اخطار شمولية القومية النقدية العالمية، اثباتا لسيادتها كدولة قومية في نظر الناخب المحلي.

فالحكومات عادة تضمن حدا اقصى لودائع الناس في حالة افلاس البنك، وكان الحد الاقصى في بريطانيا 35 الف جنيه (ارتفع هذا الاسبوع ل 50 الف) حتى لو كانت لوديعة مثلا 200 الف جنيه.

الاسبوع الماضي اصدرت الحكومة الايرلندية تشريعا بضمان جميع الودائع في البنوك دون حد اقصى غير عابئة بغضب الاتحاد الاوروبي وخرق قوانين المنافسة العادلة.

وفي ساعات بدأ مئات الالاف – من جميع الجنسيات - تحويل ودائعهم الى بنوك ايرلندا، مما ادى لانهيار اسهم البنوك الاوروبية غير الايرلندية.

بعدها بايام، نجح الرئيس جورج بوش، في اقناع الكونجرس بضمان البنوك بسيولة 700 مليار دولار من الخزانة العامة. ويوم الاربعاء اصدرت بريطانيا التشريعات بتوفير 50 مليار جنيه (96 مليار دولار) من بنك انجلترا لشراء اسهم بنوك مهددة بفقدان سيولتها النقدية، بينما خفض البنك المركزي سعر الفائدة الاساسية بنصف في المائة (اكبر تخفيض في سبع سنوات)، وهو تاميم غير مباشر في اكبر قلعتين لحرية السوق.

قبل ايام، اصدرت المستشارة الالمانية انغيلا ميركيل ضمانا للودائع مشابها للضمان الايرلندي دون التشاور مع الشركاء الاوربيين، عشية لقاء قمة زعماء اوروبا (الثلاثاء) لاتخاذ تدابير لمواجهة اخطر ازمة كساد تهدد العالم اليوم منذ كساد الثلاثينات.

في الثلاثينات كان سمسار البورصة يتصلب صاحب الاستثمار بمكالمة تليفونية او بالتليكس، قبل القرار، مما يتيح فترة معقولة ربما تعتدل فيها موازين السوق قبل اتمام العملية.

اليوم تتخذ شبكة اجهزة الكمبيوتر القرار في جزء من الثانية، دون الرجوع للمستثمر. ومثل سلسلة ردود الفاعل chain reaction التي تسبب الانفجار النووي، فان اي تغير طفيف في سعر الاسهم يخلق رد فعل بين كمبيوترات بورصات العالم في موجات ذعر وهرولة لشراء اسهم ترتفع اسعارها في ثوان، او تطرحها كلها للبيع، فينهار ثمنها ثوان.

دعوة زعماء العالم لانقاذ الاقتصاد لم تشمل العرب، رغم ضخامة الاستثمارات عربية بالمليارات. لكنها استثمارات افراد في مؤسسات مالية يحاول زعماء العالم انقاذها. السبب ليس «فقر» البنوك المركزية العربية، وانما لغياب لوائح وقوانين النظام السياسي للدولة القومية الدستورية الحديثة، في معركة حياة او موت مع القومية النقدية العالمية.