بناء أرضية مشتركة مع روسيا

TT

في عام 1914، نظرت الكثير من الدول إلى إحدى القضايا المحلية من منظور المخاوف القائمة ومباعث الإحباط، ما جعلها تتحول إلى قضية عالمية وأسفر في نهاية الأمر عن اندلاع الحرب العالمية الأولى. ورغم أن خطر اندلاع حرب عامة بين العديد من الدول قد اختفى حاليا، ما تزال المخاطرة قائمة بأن يجري التعامل مع صراع ناشئ عن مشاعر تاريخية قديمة داخل منطقة القوقاز باعتباره رمزا لصراع أكبر يهدد الجهود الرامية لبناء منظومة دولية جديدة في عالم يتسم بالعولمة وانتشار الأسلحة النووية والصراعات العرقية.

وكما هو متوقع، أسفر وجود قوات روسية على أراضي دولة مستقلة حديثاً عن الإمبراطورية السوفياتية القديمة عن بث خوف بالغ في نفوس الدول الأخرى التي أعلنت استقلالها في أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي. وقد أثار التدخل الروسي نبرة خطابية تتسم بالمواجهة وتبادل التهديدات والإجراءات الانتقامية المتبادلة. وفي الوقت الذي رابطت القوات البحرية الأميركية في البحر الأسود، جرى استعراض القدرات العسكرية والاقتصادية الروسية بمنطقة الكاريبي، ما جاء أشبه باستعراض تقليدي لتوازن القوى على غرار ما كان سائداً في القرن التاسع عشر.

ويشير البعض إلى الأزمة الجورجية باعتبارها دليلا على عزم روسيا تحت قيادة فلاديمير بوتين على تفكيك النظام الدولي الذي ظهر بأوروبا في أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي. وفي المقابل، سرت دعوة لإتباع إستراتيجية لفرض العزلة على روسيا. وحتى وقت انعقاد اجتماع تم مؤخراً بين وزيرة الخارجية الأميركية، كوندوليزا رايس، ونظيرها الروسي، سيرجي لافروف، خلت العلاقات الأميركية ـ الروسية من أي اتصالات رفيعة المستوى منذ مطلع أغسطس (آب). كما وضعت قيودا على الاتصالات غير الحكومية بين الجانبين.

ومن الضروري وضع نهاية لهذا الجنوح تجاه المواجهة. ورغم أن فرض العزلة على روسيا ربما تبدو استجابة مؤقتة ملائمة للتعبير عن قلقنا، فإن مثل هذه الخطوة من المتعذر الإبقاء عليها على المدى البعيد. وفي الواقع، ليس من العملي ولا المرغوب فيه عزل دولة متاخمة لأوروبا وآسيا والشرق الأوسط، وتمتلك مخزون من الأسلحة النووية يقترب في ضخامته من نظيره لدى الولايات المتحدة. وبالنظر إلى تاريخ العلاقات بين روسيا ودول الجوار والتي هيمن عليها التخبط والافتقار إلى الشعور بالأمن، من غير المحتمل أن يثمر مثل هذا التوجه عن استجابة متروية أو بنّاءة من قبل موسكو. وعلاوة على ذلك، تشعر الكثير من دول أوروبا الغربية بعدم الارتياح إزاء هذا التوجه.

جدير بالذكر أنه عندما أقدم السوفيات عام 1983 على إسقاط طائرة كورية اخترقت مجالها الجوي، دعت الولايات المتحدة بحماس جميع الدول للانضمام إليها في التنديد بموسكو. ومع ذلك، أمر الرئيس رونالد ريغان بعودة المفاوضين المعنيين بقضية حظر الأسلحة بالعودة إلى جنيف. وبذلك يتضح أن القوة والجهود الدبلوماسية ظلا جنباً إلى جنب.

ومثلما الحال مع غالبية الحروب، يرجع السبب وراء اندلاع الأزمة الجورجية إلى سلسلة من الحسابات الخاطئة، حيث أخطأت تبليسي في تقدير المساحة المتوافرة أمامها لاتخاذ عمل عسكري وحجم الاستجابة الروسية. ومن ناحيتها، ربما تفاجئت موسكو برد فعل الغرب إزاء تدخلها في جورجيا. وربما لم تدرس بشكل كامل تداعيات اعترافها بأوسيتيا الجنوبية وأبخازيا كدولتين مستقلتين وأثر ذلك على الدول الأخرى التي توجد بها أقليات عرقية متميزة، أو السابقة التي يمكن أن يقرها هذا الإجراء، حتى بالنسبة لبعض الأقاليم داخل روسيا ذاتها.

بيد أنه لا ينبغي السماح لمثل تلك الحسابات الخاطئة بالهيمنة على السياسة المستقبلية. المؤكد أن الولايات المتحدة لها مصالح كبرى في ضمان وحدة وسلامة أراضي جورجيا كدولة مستقلة، وليس في إتباع الدول المجاورة لروسيا نهج دبلوماسي إزاءها يقوم على المواجهة. ويتعين على روسيا تفهم أن استخدام أو التهديد باستخدام القوة العسكرية يثير ذكريات تعزز العقبات أمام بناء علاقات تعاونية معها، في وقت تشكل تلك العقبات أساس مشاعر السخط الروسي. وعلى الولايات المتحدة تقرير ما إذا كان ينبغي التعامل مع موسكو باعتبارها شريك استراتيجي محتمل أم تهديد يجب التصدي له باستخدام المبادئ المستخلصة من الحرب الباردة. وبطبيعة الحال، إذا تحولت موسكو بالفعل نحو انتهاج السياسات التي يعزوها إليها منتقدوها، يجب على واشنطن التصدي لها بكل السبل المناسبة. ومن كان لديه منا دور في إدارة الحرب الباردة سوف يدعم مثل تلك الإستراتيجية.

إلا أننا لم نصل بعد إلى هذه النقطة. ولا شك أن القادة الروس يتأسفون بشدة على تفكك الإمبراطورية الروسية والسوفياتية، لكن لو كانوا يتحلون بأدنى قدر من التفكير الواقعي ـ وتؤكد تجربتنا أنهم يحظون بذلك بالفعل ـ فسيدركون أنه من المستحيل والخطير معاً السعي لاستعادة الماضي الروسي بالسبل العسكرية.

ويكشف التاريخ الروسي عن تأرجح وتخبط ما بين القيود التي يفرضها النظام الأوروبي وإغراءات التوسع إلى داخل مناطق الفراغ الاستراتيجي على امتداد حدودها في آسيا والشرق الأوسط. وفي الواقع، لم تعد تلك الفراغات قائمة في الوقت الحالي، ففي الغرب، يتميز حلف الناتو بوجود استراتيجي رائع. أما إلى الشرق، فنجد آسيا آخذة في الصعود. وفي الجنوب، تواجه روسيا إسلاماً اصطبغ في جزء منه بصبغة راديكالية على امتداد حدود طويلة. وعلى الصعيد الداخلي، تشير الاحتمالات الديموغرافية إلى تراجع إجمالي أعداد السكان وارتفاع في نسبة المسلمين بينهم، في وقت يشعر فيه المسلمون ببعض السخط حيال الأوضاع الراهنة بالبلاد. ومن الواضح أن روسيا عجزت عن تناول مشكلاتها بمجالي الصحة والبنية التحتية بالشكل المناسب. ومع تمتعها بإجمالي ناتج محلي أقل من سدس ما تحققه الولايات المتحدة (طبقاً لتكافؤ القوى الشرائية) وميزانية دفاعية أقل بكثير عن الميزانيات الخاصة بالاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، فإن روسيا ليست في موقف يمكنها من الدخول في صراع مع قوة كبرى عالمياً. وبغض النظر عن الخطابات التي يطلقونها، يعي قادة روسيا هذه الحقيقة جيداً.

إن ما سعت نحوه القيادات الروسية، بأسلوب أخرق في بعض الأحيان، أن يتم قبولها كند في إطار نظام دولي جديد، وليس كجهة خاسرة في الحرب الباردة يتم إملاء الشروط عليها. في بعض الأحيان، اتبعت موسكو أساليب فجة لتحقيق ذلك. والواضح أن روسيا لم تبرع قط في تفهم البعد السيكولوجي للبيئة الدولية. الأمر الذي يمكن تفسيره بصورة جزئية بالاختلاف التاريخي بين التطور الداخلي في روسيا وجيرانها، خاصة في الغرب.

بيد أن الإنصاف يتطلب منا الاعتراف بأن الغرب لم يبد دوماً حساسية تجاه كيف يبدو العالم من منظور موسكو. ومن بين الأمثلة على ذلك أسلوب تطور حلف الناتو، فعلى مدار الأعوام الخمسين الأولى من عمره، أضفى الناتو الشرعية على نفسه باعتباره حلفاً دفاعياً. وعندما شن أول حرب يخوضها باختياره ضد يوغوسلافيا عام 1999، أعلن الناتو حقه في تحقيق تطلعاته الأخلاقية باستخدام عمل عسكري هجومي. (وقد ساندنا سياسة الحلف آنذاك بقوة). وقد انتهت الحرب التي اشتعلت من أجل وضع حد للانتهاكات الصربية لحقوق الإنسان داخل كوسوفو، بصورة جزئية، من خلال وساطة روسية. وأثمرت الحرب عن كوسوفا تتمتع باستقلال ذاتي تحت سيادة صربية اسمية، وإشراف فعلي من قبل الاتحاد الأوروبي. وفي وقت سابق من العام الجاري، تبدل هذا الوضع بصدور قرار انفرادي من جانب مجموعة من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بإعلان استقلال كوسوفا دون إقرار لذلك من جانب الأمم المتحدة وفي مواجهة معارضة روسية شديدة.

وجاء القرار الخاص بكوسوفو متزامناً تقريباً مع نشر خطة لتحريك صواريخ مضادة للصواريخ البالستية إلى داخل بولندا وجمهورية التشيك، علاوة على مقترح بدعوة أوكرانيا وجورجيا للانضمام إلى الناتو. ولا شك أن تحريك الخط الأمني بين الشرق والغرب في غضون فترة قصيرة تاريخياً لمسافة 1000 ميل شرقاً، مع تغيير نمط مهمة حلف الناتو ونشر تقنيات أسلحة متطورة على أراضي الدول التي كانت تابعة للاتحاد السوفياتي السابق لم يكن لتواجهه روسيا بخنوع وصمت.

وتفسر هذه الخلفية بعض الدوافع الروسية، ولكننا لا نسعى من وراء سرد هذه الحقائق تبرير كل استجابة أو خطاب يقوم على المواجهة صدر عن موسكو من وقت لآخر. لكن ما نبغي التأكيد عليه أهمية النظر إلى الصراع الحالي من منظور تاريخي وسيكولوجي.

إن الأزمات الراهنة لا ينبغي أن تشتت انتباهنا بعيداً عن المسؤوليات طويلة الأمد. وتوفر النقاط الست التي اقترحها الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي إطار عمل لإقرار حل للأزمة الجورجية يتم قبوله رسمياً من كافة الأطراف المعنية. وتقوم الفكرة الرئيسة لهذه النقاط على ضمان استقلال جورجيا الحقيقي داخل حدودها القائمة بالفعل، مع استمرار التفاوض بشأن وضع إقليمي أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا.

يذكر أنه في أبريل (نيسان)، التقى الرئيس بوش مع بوتين، الذي كان يتولى منصب رئيس روسيا آنذاك، في سوتشي ووضعا الخطوط العريضة لبرنامج تعاون مشترك للتعامل مع المتطلبات طويلة الأمد للنظام العالمي. وتضمن البرنامج قضايا مثل منع انتشار أسلحة الدمار الشامل وإيران والطاقة والتغييرات المناخية وسبل نشر تأثيرات إقرار نظام دفاع صاروخي بأوروبا الشرقية، واحتمالات ربط أنظمة دفاع صاروخية أميركية وروسية. يذكر أن الدولتين تمتلكان أكثر من 90% من إجمالي الأسلحة النووية على مستوى العالم. لذا، من الضروري التعاون بينهما من أجل وقف انتشار هذه النوعية من الأسلحة.

وتوفير وثيقة سوتشي خارطة طريق مفيدة. بطبيعة الحال، لا ينبغي السماح لموسكو باستغلال المصالح المشتركة كأداة لتحقيق مآربها الخاصة من خلال التهديدات والضغوط العسكرية. إن الذين شككوا منا في مدى إلحاحية سعي الناتو لضم جورجيا وأوكرانيا لعضويته لا يؤيدون بناء نطاق للنفوذ الروسي بأوروبا الشرقية. في الواقع، إننا نعتبر أوكرانيا جزءاً رئيساً من الهيكل الأوروبي، ونؤيد ضرورة التحرك بسرعة لضمها لعضوية الاتحاد الأوروبي. ونؤمن بضرورة وضع أمن أوكرانيا وجورجيا في نطاق أوسع عن مجرد السعي لإقرار قيادة للناتو على بعد بضعة أميال عن موسكو. يذكر أن الناتو وافق بالفعل على مبدأ نيل أوكرانيا وجورجيا لعضويته. لكن إرجاء تنفيذ هذه الخطوة حتى تتولى إدارة أميركية جديدة السلطة وتدرس الخيارات المتاحة أمامها لا يعد تنازلاً، وإنما إدارة مسؤولة للقضايا المستقبلية.

وأخيراً، فإن قدرتنا على إتباع سياسة خارجية فعالة تجاه موسكو يتطلب بذل جهود حثيثة لاستعادة قوتنا على الصعيد الداخلي. وعليه، ينبغي ترتيب أوضاعنا المالية، ليس فقط فيما يتعلق بالأزمة الراهنة، وإنما أيضاً بالنسبة لهيكل برامج المستحقات. إننا نعتمد بصورة مفرطة على واردات النفط. لذا نحن بحاجة إلى تشريع يضفي منظوراً بعيد الأمد على جهود شاملة ودءوبة لوضع نهاية لهذا الاعتماد المفرط. إن الجهود الدبلوماسية دون قوة حقيقية تدعمها لا طائل من ورائها. ونعتقد أن المصالح الأميركية والأوروبية والروسية باتت أكثر تقارباً اليوم ـ أو من الممكن جعلها كذلك ـ حتى في أعقاب الأزمة الجورجية، أكثر من أي حقبة تاريخية سابقة. وعلينا ألا نهدر هذه الفرصة.

* هنري كيسنجر وزير الخارجية الأميركي الأسبق (1973 ـ 1977) وجورج شولتز وزير الخارجية الأميركي الأسبق (1982 ـ 1989)

*خدمة «واشنطن بوست»

خاص بـ«الشرق الأوسط»