تغيير الاتجاه في السياسة العربية والفلسطينية

TT

كانت السياسة الفلسطينية دائما جزءا من السياسة العربية. عام 1967، وبعد هزيمة حزيران، شجع العرب العمل الفدائي، وأمدوه بالمال والسلاح، لأنهم كانوا يريدون فسحة من الوقت لإعادة بناء الجيوش العربية، وبخاصة في مصر وسوريا والأردن، ورأوا أن العمل الفدائي قادر على مشاغلة إسرائيل تحقيقا لذلك الهدف.

عام 1973، اعتبر العرب نتائج حرب تشرين نصرا لهم، وضغطوا على الفلسطينيين من أجل قبول مبدأ الحلول الواقعية بعد أن فتحت الحرب نافذة أمامها. منح العربُ الفلسطينيينَ شعار «منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد» وسهلوا لهم الوصول إلى الأمم المتحدة وإلى عضوية المراقب فيها عام 1974، ونالوا من الفلسطينيين مقابل ذلك برنامج النقاط العشر الذي أقره المجلس الوطني الفلسطيني، والذي كان بداية طريق التفاوض السياسي.

عام 1991 رفع العرب شعار «السلام خيار استراتيجي»، وذهبوا تحت راية ذلك الشعار إلى مؤتمر مدريد، وذهب معهم الفلسطينيون، مؤيدين للشعار نفسه.

وفي سياق هذه السنوات كلها، طرح العرب على العالم، مشروع الملك فهد للتسوية عام 1982، ومشروع الملك عبد الله للتسوية عام 1998، وأيد الفلسطينيون هذين المشروعين ودعموهما.

الآن، وفي ختام العام 2008، تتهيأ الظروف سلبا وإيجابا، من أجل إحداث تغيير كبير في السياسة العربية، ومن أجل إحداث تغيير مماثل في السياسة الفلسطينية. تتهيأ الظروف من أجل انعطافة كبيرة تغير الاتجاه. فخيار السلام العربي الاستراتيجي رفضته إسرائيل، وقد عايش الفلسطينيون هذا الرفض الإسرائيلي للسلام منذ مؤتمر مدريد حتى اليوم. عايشوه ثنائيا. وعايشوه في قمة الرعاية الأميركية في كامب ديفيد 2000. وها هم يعايشونه الآن بمرارة في المفاوضات الماراثونية التي يقودها الرئيس الفلسطيني محمود عباس بدون جدوى. وثبت من خلال كل هذه التجارب أن إسرائيل لا تريد تسوية، ولا تريد اتفاقا متفاوضا عليه، ولا تريد الانسحاب من الأراضي التي احتلتها عام 1967، ولا تريد الموافقة على إنشاء دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة. إسرائيل تريد شيئا واحدا فقط هو اقتسام الضفة الغربية. تريد كل أراضي الضفة الغربية باستثناء الأراضي التي يعيش فوقها السكان، وبحيث تكون الحصيلة في النهاية أراضيَ تضم إلى إسرائيل، وحكما ذاتيا إداريا للفلسطينيين داخل مدنهم وقراهم، عملا بشعار مناحيم بيغن الذي أبلغه للمصريين في مفاوضات كامب ديفيد الأولى، وهو الشعار القائل بأن الحكم الذاتي هو للسكان وليس للأرض. وهو النهج نفسه الذي تابعه إيهود اولمرت في مفاوضاته الآن، والذي ستواصله تسيبي ليفني في مفاوضاتها المقبلة.

هذا الواقع الاستراتيجي المرّ لا بد له أن ينتج رد فعل فلسطينيا وعربيا. لا يمكن مواصلة التعامل مع نهج «اللا تفاوض» الإسرائيلي هذا إلى الأبد. كل عملية تفاوضية لها بداية ولها نهاية. لها مرحلة حياة ولها مرحلة موت إن فشلت. وإذا كان الفلسطينيون قد تفاءلوا بالوضع الدولي وما أفرزه من قوى ضاغطة، مثل اللجنة الرباعية الدولية، أو مؤتمر أنابوليس، فإن النتائج المثبتة أمام أعين الجميع، تشير إلى أن كل هذه الهيئات لم تثمر شيئا. مؤتمر أنابوليس تآكل وتلاشى تحت ضربات الاستيطان الإسرائيلي. أما اللجنة الرباعية الدولية فقد أنتجت ما هو أشد خطرا، أنتجت شعار «السلام الاقتصادي»، الذي يلغي الهدف السياسي للتفاوض، ويركز على تحسين معيشة الناس تحت الاحتلال. فعل ذلك توني بلير الذي أصبح مندوب اللجنة الرباعية. وفعل ذلك خلفه غوردون براون رئيس وزراء بريطانيا، الذي حول هذا التوجه إلى نظرية تقول بأن «التعاون الاقتصادي» بين إسرائيل والفلسطينيين تحت الاحتلال هو الذي يستطيع أن ينتج في النهاية سلاما ودولة. طرح دين براون تصوره هذا علنا أمام الكنيست الإسرائيلي، وبشرنا بعد ذلك أن لديه «خريطة طريق» من أجل وضع هذا السلام الاقتصادي موضع التطبيق. وها نحن نشهد حاليا المرحلة الأولى من انتقال هذا المفهوم للسلام الاقتصادي، من النطاق الدولي إلى النطاق الإسرائيلي. وذلك حين أعلن بنيامين نتنياهو (8/10/2008) زعيم حزب الليكود، والمرشح الأوفر حظا لكي يصبح رئيس وزراء إسرائيل بعد الانتخابات المقبلة، في مقابلة مع صحيفة «فايننشال تايمز» البريطانية، «إنه لا يريد وقف المفاوضات الجارية مع السلطة الفلسطينية، ولكنه يعتزم تحويل الاهتمام بعيدا عن التوصل إلى تسوية شاملة تهدف إلى قيام دولة فلسطينية. وسيركز بدلا من ذلك على اتخاذ خطوات عملية هدفها تحسين مستوى معيشة الفلسطينيين في الضفة». وقال نتنياهو «إنه لا يعتقد أن السلام سيؤدي إلى تحقيق الرفاهية، ولكن الرفاهية هي التي تؤدي إلى تحقيق السلام». لقد كان نتنياهو طوال حياته السياسية رافضا للحلول السلمية التفاوضية، وكان يفتقد دائما إلى الحجة المقنعة في مداولاته مع المسؤولين الدوليين، ولكن رئيس وزراء بريطانيا وضع في فم نتنياهو الحجة المقنعة لرفض السلام والتسويات السياسية، من خلال الحديث عن السلام الاقٌتصادي أولا، وربما يصبح له أنصار ومؤيدون في أروقة السياسة الأوروبية والأميركية.

والسؤال المهم الذي يطرح نفسه هنا: ماذا سيكون موقف القوى الدولية الفاعلة في سياسة الشرق الأوسط إزاء توجه إسرائيلي من هذا النوع؟ ماذا سيكون موقف الولايات المتحدة بالذات، وهي علنا، على الأقل، راعية مشروع السلام والتفاوض والدولة الفلسطينية؟ لا بد أن نلاحظ هنا واقع الأزمة المالية والاقتصادية التي تواجهها الولايات المتحدة الأميركية، إنها بإجماع المحللين الاقتصاديين الرأسماليين أزمة كبيرة وخانقة وتحتاج إلى جهود كبيرة، وإلى تعاون دولي لمواجهتها بنجاح. وكلمة النجاح هنا تعني أزمة خانقة تمتد إلى خمس سنوات على الأقل. وإضافة إلى هذه الأزمة الاقتصادية الخانقة، والتي تخيم بظلها الأسود على العالم كله، فإن السياسة الأميركية الخارجية تواجه أزمات حادة، ربما كانت أبرزها الآن أزمة أفغانستان، حيث انتهت الحرب من أجل القضاء على طالبان إلى طلب التفاوض معها. وهناك أزمة مماثلة ميدانها العراق، حيث الأمور مرشحة لحروب أهلية مختلفة الدوافع، تجبر القوات الأميركية على البقاء لضبط الوضع الأمني، مع ما يعنيه ذلك من تبعات مالية كبيرة. وهناك أزمات أخرى من نوع : تمرد إيران على السياسة الأميركية، وعودة كوريا الشمالية للتمرد على السياسة الأميركية.. فهل ستكون الولايات المتحدة الأميركية، في ظل هذه الأزمة الاقتصادية، وفي ظل هذه الأزمات السياسية والعسكرية التي تواجهها، قادرة أو حريصة أو مهتمة بممارسة ضغط على إسرائيل من أجل تغيير مسارها السياسي، أم أنها ستجد في إسرائيل قاعدة عسكرية قوية تحتاج إليها لتكون أداة من أدوات سيطرتها في منطقة الشرق الأوسط، مع ما يعنيه ذلك من مسايرة لها، وإلغاء لمنطق الضغط عليها، كما كان الحال طويلا بينهما؟

الأرجح هو هذا.. أي أن يستمر النهج الأميركي الذي يترك لإسرائيل أن تحدد بنفسها نوع السلام الذي تريده، وحجم الأرض الفلسطينية التي تريد الاستيلاء عليها. وسيستمر هذا الأمر لسنوات مقبلة، هي سنوات الأزمة الاقتصادية حتى يمكن الخروج منها. أما أثناء الأزمة، فلن يشهد الشرق الأوسط، ولن تشهد العلاقات العربية ـ الإسرائيلية أية تسويات منشودة، بل ربما يزداد التهديد الإسرائيلي للفلسطينيين وللعرب، كجزء من خدمات إسرائيل للسياسة الأميركية.

وهذا هو بالذات الظرف الذي يستدعي إحداث تغيير جوهري في السياسة العربية، وإحداث تغيير جوهري في السياسة الفلسطينية.

التغيير الجوهري العربي المطلوب هو أن يعلن العرب، وعبر قمة عربية مثلا، أن رفض إسرائيل للسلام يعفي العرب من السلام كخيار استراتيجي لهم، مع ما يتولد عن ذلك من نتائج كبيرة على صعيد البناء الاقتصادي والبناء العسكري لكل دولة عربية على حدة، ومع ما يتولد عن ذلك من تغير في لغة الخطاب العربي الدولي.

أما التغير الجوهري الفلسطيني المطلوب فهو الإعلان عن وقف التفاوض مع إسرائيل، والإعلان عن أن العودة إلى التفاوض مرهونة بإعلان إسرائيل الموافقة على الهدف النهائي للتفاوض، وهو الانسحاب الكامل من الأراضي التي احتلت عام 1967، وإزالة كل تغيير استيطاني فيها لأنه مغاير للقانون الدولي، مع رفع شعار فلسطيني يقول: انسحاب إسرائيلي كامل وسيادة فلسطينية كاملة، وذلك من أجل التخلي نهائيا عن نظرية تبادل الأراضي المشؤومة التي تبرر الاحتلال والاستيطان. أما ما سيلي ذلك فهو أن يعود الفلسطينيون إلى مقاومة جماعية للاحتلال الإسرائيلي، يتذكر العالم من خلالها قضية فلسطين ويتعامل معها. أما من خلال التفاوض الدائر فإن العالم يتذكر فلسطين ولكنه لا يتعامل معها. وهو إما أن يترك الأمر لإسرائيل، وإما أن يخترع نظريات السلام الاقتصادي.