سياسات الخوف وسياسات الأمل: لمن الغلبة؟

TT

مع حلول أكبر أزمة مالية في تاريخ الدول الصناعية منذ الكساد الكبير، اصبحت المخاوف اكثر استمكانا من ذي قبل على الصعيد العالمي مع امتداد الأزمة من امريكا الى اوربا ثم اجزاء من آسيا شاملة منطقة الخليج. الناس اصبحوا اكثر قلقا على مدخراتهم التي استودعوها في بنوك قد تفلس وتصبح عاجزة عن تسديدها لأصحابها بين ليلة وضحاها، والحكومات أمام خيارين أحلاهما مر، فإما تغطية هذه الخسارات عبر شراء الشركات والبنوك المنهارة بأموال دافعي الضرائب وبالتالي تحمل مسؤولية ضمان ان لا تذهب هذه الاموال سدى او الى جيوب اصحاب ومديري تلك الشركات، او ترك النظام المالي ينهار تدريجيا مع كل ما سيتبعه من ازمات قانونية واجتماعية ورعب يبدأ لحظة تزاحم الناس على استعادة مدخراتهم وتداع للمؤسسات المالية بطريقة تقود الى خسارة آلاف الوظائف وبالتالي بروز ازمات اجتماعية حادة لا تؤدي إلى تهديد النظام الرأسمالي فقط، بل إلى تهديد أمن وسلامة العالم .

يمكن القول وبدون مبالغة إن العالم كله اليوم أمام اختبار كبير بحيث سيكون للقرارات التي تتخذ في هذه الايام، والتي قد لا نسمع بها او لا نفهمها بسبب تعقيد الأزمة، تأثير حاسم على مستقبل العالم كما على مستقبل كل واحد منا. الأمر معقد أكثر من مجرد ما يظهره البعض من بهجة او احتفال مستعجل بـ«انهيار» الرأسمالية المرتقب او أفول القوة الامريكية، ففي الحقيقة ان النمر الجريح يكون اكثر فتكا من النمر المعافى، وامريكا المأزومة لن تكون اقل خطرا من امريكا القوية، وامتداد الأزمة ضمن اقتصاد معولم اكثر من اي وقت مضى سيضرب جيوب الجميع بمن فيهم الاكثر فقرا، والذين سيكونون اول ضحايا الانهيار، كما يعتقد الكثيرون الذين يرون بواكير ذلك في رزمة الانقاذ التي اعتمدتها ادارة بوش وبعض الحكومات الاوربية، والتي ـ كما وصفها احد علماء السياسة الغربيين ـ تقوم ببساطة على «أخذ المال من الفقراء ومتوسطي الدخل لتمويل الاغنياء ومنع انهيار مؤسساتهم». ورغم ان مؤيدي هذه الرزمة وهم الغالبية في الاحزاب الرئيسية يجادلون بأن منع انهيار هذه المؤسسات وإفلاسها سيخدم في النهاية متوسطي الدخل والفقراء الذين قد يفقدون وظائفهم ومدخراتهم مع هذا الانهيار.

سنسمع الكثير من هذا الجدل، إذا استمرت الأزمة، ولكن الاخطر من ذلك هو ان سياسات الخوف ستحقق مزيدا من الانتصارات مع تمكن الركود واستفحال الأزمة وتحولها الى كساد. المتطرفون عادة ما ينتعشون في مثل هذه الاجواء وآيديولوجيات الضغينة عادة ما تزدهر في البيئات المأزومة وعندما تتغلب حالة من اللايقينية والخوف على الارجاء. هذا ما شهدناه في عالمنا العربي والاسلامي عندما رأينا المتطرفين يخرجون من المناطق الاكثر فقرا، ومن مدن الصفيح، حيث يتصالح ثالوث الجهل والفقر والمرض، وحيث لا يجد الشباب العاطلون وأنصاف المتعلمين من ملاذ غير الافكار التي ترنو الى تدمير العالم كطريقة لإصلاحه. عندما يكون الانسان في مواجهة ازمات حياتية غير منتهية، وعندما يستمكن الحرمان منه، في الوقت الذي يرى أمامه «أقلية» متنعمة حد التخمة، حينذاك يمكن لآيديولوجيات الكراهية ان تملأ الفراغ وان توجه الغضب نحو الآخر ويمكن لهذا الغضب ان يتحول الى قوة تدميرية هائلة، فالعالم الذي لا نفهمه قد نجد حافز قويا كي ندمره .

المشكلة أن الأزمة الاقتصادية تأتي في وقت اصبحت مشاعر الهوية والبغض للآخر أكثر وضوحا بسبب العولمة وثورة الاتصالات التي بدلاً من أن تخلق فضاءً لفهم الآخر وتعزيز التسامح، كما كان يتصور البعض، خلقت مزيدا من التخندق بسبب «اكتشاف» الآخر وما خلقه هذا الاكتشاف من مخاوف على الذات. في كل مكان من العالم هناك تضخم لثنائية «نحن» و«هم»، وهذا التضخم يوفر مجالا اوسع لليمينيين الذين يستثمرون فيه، محاولين توجيه السخط والنقمة نحو الآخر. وإذا كانت هذه الحقيقة ملموسة جدا في مجتمعاتنا التي لم تتعود التعايش مع أي شكل من أشكال الاختلاف، فإن بعض بواكيره صارت مرئية حتى في امريكا، حيث يتسابق مرشحا الرئاسة على إلقاء بعض اللوم على «الآخرين» في الأزمة المالية الامريكية لا سيما عندما يتعلق النقاش بالإدمان الامريكي على النفط «الذي يؤدي الى انتعاش اناس يكرهون امريكا» كما يقول ماكين.

المخاوف المتعلقة بقدرة المجتمعات الغربية على الاحتفاظ بنفس مستوى الرفاه والتحديات التي إذا ما استمرت او تصاعدت الأزمة الحالية ستبدأ بالاقتراب اكثر من قدرة الفرد هناك على الاحتفاظ بمستوى معيشي جيد، هذه المخاوف اذا ما تم ربطها بتلك الناتجة عن صراع الهويات وصعود نفوذ العامل الديني والآيديولوجيات الخلاصية غير العقلانية، ستقود العالم الى مزيد من الانحدار نحو سياسات الخوف، ومن ثم نحو تجذير للكراهية يوفر التربة المناسبة لصراعات اكثر فتكا، وعلينا ان نتذكر ان هتلر صعد الى السلطة في ظروف شبيهة بهذه التي يكاد العالم يدخلها.

إن هناك فرصة خطيرة لغلبة سياسات الخوف وعندها علينا جميعا ان نلتفت حولنا، فالعالم قد يصبح مكانا أكثر خطورة بحيث لا تغدو مشاهد العنف في العراق أمرا مستغربا حتى في أكثر المجتمعات استقرارا، لكن بالتأكيد ان هناك فرصة لا تقل احتمالا لغلبة سياسات الأمل التي قد تنعش الطموح بعالم اكثر وعيا واستقرارا، غير ان ذلك مرهون الى حد كبير بالخيارات التي سيتخذها بعض من القادة الحاليين او القادمين.