قروش المحبّة

TT

المواقف الإنسانية ليست حكراً على أحد ـ أشدد (ليست حكراً على أحد) ـ

وهذه ممرضة ناشئة في عنبر السل تقول: وقفت إلى جوار فراش (مستر ديتو) قبل أيام من وفاته، وكان يبدو أشبه بعروسة سوداء فوق وسادة بيضاء، وكاد رأسه العجوز يختفي في طياتها العميقة، وهو مصاب بسل في الحوض في مرحلة متقدمة، وكان هناك خراج كبير أحدث فتحة تنزف باستمرار، وتتصاعد رائحة كريهة من الخراج تقابلني كلما دخلت غرفته، إلى درجة أنني أكاد أستفرغ، وكدت أعتذر عن عدم تمريضه، ولكنني عندما شاهدت بريقاً صامتاً ويائساً يشع من عينيه تراجعت، واجتاحتني نحوه عاطفة مفاجئة غريبة أبكتني دون أي إرادة.

كان الرجل وحيداً لا زوجة ولا أبناء ولا أهل، كان يبدو بجسمه الضئيل وكأن لا وزن له، وأنا أقلبه برفق على جانبيه، ولا أنسى عندما كنت أرفع الضمادات عنه وتفوح رائحته، عندها يقول لي وكأنه يعتذر: لست أدري كيف تتحملين ذلك يا سيدتي؟! إنني نفسي لا أقوى على تحمله، ثم يقطب بوجهه بصورة هزلية جعلتني أضحك بصوت عال، وعندما سمع ضحكي ضحك هو، وأحسسنا بسرور لا يصدقه عقل.

وفي يوم قال: إنني أشعر بتحسن كبير، ثم مد يده النحيلة المرتعشة وأخذ ينقب في الدرج وأخرج قطعة نقدية بقرشين وقدمها لي قائلا: «إنه ليس كثيراً مقابل كل ما فعلته لي من خير، فاليوم شديد البرودة، وأظن أن قدحاً من القهوة الساخنة يمنحك بعض السرور»، ولمحت من خلال الدرج المفتوح ما لا يقل عن عشرين قطعة مماثلة، فاعتذرت له عن عدم أخذها قائلة: كلا يا مستر ديتو، ادخرها ليوم مطير، ورأيت النور يختفي من عينيه، وكأنما ظل أسود سقط على وجهه وقال: لن أواجه أبداً يوماً مطيراً أقسى من هذا».

وعندما سمعت هذا اليأس الكئيب في صوته، أحسست أنني غلطت، لأنني أشعرته أن لا شيء باقيا عنده لينجزه سوى الموت، عندها تبسمت في وجهه قائلة: والله إنها لفكرة رائعة، إنني فعلا في حاجة إلى قدح من القهوة الساخنة، وأخذت من يده القرشين، فعاد له المرح من جديد وابتسم لي بعينيه.

وفي كل صباح عندما أنتهي من العناية به وأرقده نظيفاً مرتاحاً فوق الأغطية البيضاء، يمد يده إلى الدرج ويعطيني القرشين، مع الشكر والاعتذارات والدعاء لي.

وأصبحت أتطلع بحماس وإخلاص إلى الساعة التي أقضيها معه بأحاديث قليلة ضاحكة بعيداً عن أي مرض، وقبل أن أغادر يمد كالعادة يده الكهلة إلى الدرج ليخرج القرشين ويعطيني إياها قائلا: إنها ليست كثيرة مقابل كل ما تفعلينه يا ابنتي من أجلي.

وأخذ عدد القطع النقدية يتناقص، فاضطررت لأن أعيد القطعة التي آخذها منه مرة أخرى إلى الدرج دون أن يشعر هو، بعد أن أتأكد أنه راح في سبات عميق.

وعاش بعد ذلك أسبوعين، وآخر مرة تسلمت منه القرشين، سمعت صوته الخافت يتردد وهو يشد على يدي قائلا: أنت ملاك يا ابنتي، بكل تأكيد أنت ملاك، وفي صباح اليوم التالي ذهبت إلى غرفته وكانت صدمتي عندما لم أشاهد غير الأغطية البيضاء، وكان الدرج مفتوحاً، وإذا بالطبيب يأتي لي ببقية القروش ويضعها في يدي قائلا: هذه هي تركة مستر ديتو، وهذه هي وصيته الوحيدة.

وذهبت إلى مقصف المستشفى واشتريت قدحاً من القهوة، ورحت ارتشفه بصمت والدموع تسيل على خدي.

[email protected]