امنحوا حكومة العراق خيارا عربيا!

TT

في التاسع من يونيو (حزيران) المنصرم، كتبت مقالا في هذه الصحيفة بعنوان «العراق: جائزة العرب الكبرى»، قلت فيه لو كانت هناك جائزة استراتيجية كبرى للعرب في هذا الوضع الإقليمي المضطرب، فهي العراق، لا لبنان ولا حتى فلسطين. جاء ذلك المقال في أعقاب زيارة وزير خارجية الإمارات الشيخ عبد الله بن زايد إلى بغداد، وقيامه بتعيين سفير لدولة الإمارات في العراق. زيارة المسؤول الإماراتي رفيع المستوى وقيامه بتعيين سفير لبلاده في العراق، كانا خطوتين في الطريق الصحيح لتفعيل الدور العربي في العراق، أو ما يمكن تسميته «الخيار الاستراتيجي العربي» لخلق حالة توازن مع الوجود الإيراني، ومنح الحكومة العراقية وجها عربيا. أكدت وقتها على أن الخطوة الإماراتية يجب ألا تبقى خطوة منفردة، بل يجب أن تكون جزءا من استراتيجية متكاملة للدول العربية، للإمساك بناصية المبادرة في عراق بدأ يفلت من أيدي العرب.

اليوم، لدي تفاؤل حقيقي بمظاهر استراتيجية عربية بدأت تتبلور تجاه العراق. ففي يوم الأربعاء الماضي، أعلن ولي العهد السعودي الأمير سلطان بن عبد العزيز، أن هناك توجها سعوديا لافتتاح سفارة في العراق، هذا التوجه كان قد لمح إليه وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل في السابق. جاءت تصريحات الرجل الثاني في المملكة العربية السعودية مع خطوات عربية أخرى مهمة تجاه بغداد. ففي الأحد الماضي، أرسلت مصر وزير خارجيتها أحمد أبو الغيط إلى العراق، وقد عبر وزير الخارجية المصري عن استعداد بلاده للمشاركة في مشاريع البناء وإعادة إعمار العراق، كما أعلن أنه تم الاتفاق على إعادة افتتاح السفارة المصرية في العاصمة العراقية بغداد. وبعد يومين من التحرك المصري نحو العراق، أتت زيارة الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبو ظبي، إلى بغداد عقد خلالها جلسة مباحثات مع رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي حضرها الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان وزير الخارجية الإماراتي، وأعلن فيها الشيخ محمد بن زايد تنازل الإمارات عن سبعة مليارات دولار من ديونها للعراق. وبالطبع، كانت زيارة ملك الأردن عبد الله الثاني إلى بغداد لإجراء محادثات في أغسطس (آب) الماضي، هي الزيارة الأولى لزعيم عربي إلى العراق منذ إطاحة نظام حكم صدام حسين.

هذا التحرك العربي الدبلوماسي يصب في تبلور استراتيجية عربية جديدة تجاه العراق. الدور العربي في العراق هو الذي سيفرض توازنا استراتيجيا مع إيران ويحد من تمددها داخل المنطقة العربية، ويضمن للعراق «بشيعته وسنته» صبغته العروبية، بدلا من الدخول في معارك حامية حول تغلغل التشيع في العالم السني، وبدلا من القلق من شيعة هم في معظمهم عرب. بمثل هذا الدور الجديد لدول عربية كبرى، يكون العرب في طريقهم إلى فرض أمر واقع مختلف وحقائق جديدة على الأرض، هي الحل الوحيد الناجع للتعامل مع تمدد الدولة الإيرانية خارج مناطق نفوذها المعقولة. نهوض الدول العربية للأخذ بيد العراق، ينقلنا جميعا من استراتيجية اللطم والبكاء على العراق الضائع إلى واقعية السياسة. تحتاج الحكومة العراقية مهما كانت درجات التحفظ عليها أن يمنحها العرب، دولا وشعوبا، خيارا عربيا قويا، بدلا من تركها تلجأ من باب الحاجة إلى الحضن الإيراني.

لم يعد خافيا أن الدور غير العربي في العراق، قد أصبح هو المهيمن، وهنا أعني الولايات المتحدة وإيران وتركيا، على هذا النحو وعلى هذا الترتيب. إيران غير النووية اليوم تنطلق من العراق كمنصة نفوذ وهيمنة إلى لبنان وغزة واليمن والبحربن والكويت وكثير من دول الخليج الأخرى. فإذا كان لإيران هذا النفوذ في المنطقة من دون سلاح نووي، فكيف سيكون حجمه إذن عندما تمتلك إيران سلاحا نوويا وتدخل النادي النووي العالمي؟ ربما هذا الدور الإيراني المتعاظم والمتغلغل في بلداننا، هو ما دفع برجل دين بعيد عن السياسات الاستراتيجية الكبرى، هو الشيخ يوسف القرضاوي للخروج عن طوره وإدلائه بأحاديث صحافية أشعلت حريقا في اللوبي الإيراني في القاهرة، وما زالت تداعياته مسيطرة إعلاميا حتى اليوم.

التحرك العربي الجديد نحو العراق، سوف يفرض على الغرب أيضا أن يأخذ الدول العربية في حسبانه عند نظره إلى معادلة الاستقرار الإقليمي في المنطقة. غياب العرب عن العراق يدفع الغرب إلى البحث عن قوة سنية بديلة غير عربية لخلق توازن مع إيران الشيعية. وهذا ما حدث فعلا، فالغرب يفكر اليوم في تركيا على أنها القوة السنية البديلة. هذه الاستراتيجية الغربية لها هدفان: الهدف الأول هو إبعاد تركيا عن أوروبا بدغدغة مشاعرها فيما يخص دورها الريادي في العالم الإسلامي، وإقناعها بأن وجودها كجسر بين الغرب والمسلمين أهم بكثير من انضمامها للاتحاد الأوروبي. أما الهدف الثاني، فهو قدرة تركيا من حيث القوة العسكرية على التصدي للتمدد الإيراني في المنطقة عندما يزيد عن حده.

وتركيا بالطبع كانت ترى في غياب العرب عن المعادلة الاستراتيجية الاقليمية ما يحفزها للدخول على خط شمال العراق وعلى خط السلام العربي ـ الإسرائيلي، وينعش رغبتها في استعادة دورها العثماني المهيمن القديم في المنطقة، خصوصا أن الحزب الحاكم في تركيا، ذا الميول الإسلامية، ليس بعيدا عن المشاعر الرومانسية المتعلقة بالحنين إلى ماضي دولة الخلافة، والأهم أنه يلقى قبولا لدى الكثير من الإسلاميين العرب السنة، فنكون بذلك قد استبدلنا النفوذ الإيراني بالنفوذ التركي، وكما يقول المثل «من تحت الدلف إلى تحت المزراب». يتمنى العرب أن تستعيد روسيا أمجادها أو أن تخلق أي قوة أخرى لتوازن أميركا فيأمنوا شرها، ويتمنى العرب أن تقوى تركيا ليأمنوا شر إيران، هذا التحرك الاستراتيجي الجديد لدول عربية محورية، قد يمكننا بأن يتمنى العرب أن يقوى العرب ليأمنوا شر الطامعين جميعا.

استراتيجية الدول العربية تجاه العراق يجب أن تنطلق من محورين أساسيين، الأول سياسي والثاني ديني. المحور السياسي يجب أن يرتكز على فرضية فك الارتباط بين إيران والشيعة العرب، بمن فيهم شيعة لبنان. أما المحور الديني فهو يتطلب عملا عربيا جادا لنقل المرجعية على المستوى الديني من قم إلى النجف، ونقل ثقل الحوزات من إيران إلى العراق. من هذين المنطلقين، يمكننا تصور أدوار مختلفة للدول العربية فرادى أو مجتمعة. قد نختلف أو نتفق على حجم الدور وتوجهه، ولكن يجب ألا نختلف أبدا على ضرورة وجود دور عربي في العراق للحد من الهيمنة غير العربية على هذا البلد.

بلورة استراتيجية عربية متكاملة تجاه العراق ومنح الحكومة العراقية خيارا عربيا، هما ركنان أساسيان في موازنة الخلل القائم في معادلة الأمن الإقليمي العربي.