هل ثمن الانبهار بالغرب ماليٌّ فقط؟

TT

لا شكّ أنّ القلق العالمي الذي أثارته الانهيارات المالية في الغرب يثبت مرةً أخرى المركزية الغربية وأثرها البالغ على حياة الشعوب. إذ تمكّن الغرب بعد الحرب العالمية الثانية من أن يصبح مركز التاريخ والجغرافيا والاقتصاد والثقافة والتعليم والمال طبعاً. وخطّطّ لكلّ ذلك وصمّمه بمنتهى الدقّة، بحيث تصبّ موارد الدول جميعها في خزائنه، وبحيث يعطي القيمة العليا لمنتَجه، والقيمة الأدنى لمنتجات الشعوب الأخرى. وما برحنا نقرأ جميعاً عن مناجم الذهب والماس التي عمل بها عمال أفارقة فقراء، وحين استنفذت هذه المناجم تركت خلفها قرى بالبؤس ذاته الذي شهدته قبل سنين، بينما راكَمَ آخرون من تجّار الذهب والماس ثروات طائلة في بلدان لم تحتوِ على هذه المناجم بل وضعت يدها عليه ودفعت أبخس الأثمان لمن استخرجه من الأرض وأغلى الأثمان لمن صقله وتاجر به. وكلما ازداد الغرب غنى، وازدادت الدول المنتجة للمواد الأولية فقراً، برهن الغرب على تفوقه المعرفي والفكري، وبالتالي على أهليته للسيطرة على البلدان النامية. وبدلاً من أن تحاول البلدان النامية إيجاد أسلوب آخر لاستعادة قبضتها على منتجاتها والاتجار فيما بينها، والتخلّص من المركزية الغربية، حاولت أن تتبع وصفات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي الذي زادها فقراً وعوزاً. ومع أنّ الأمثلة صريحة وواضحة، فقد ندر من فهم هذه الأمثلة على حقيقتها أو استفاد منها بالشكل الأمثل. فحين حدثت الأزمة المالية في بلدان آسيا في تسعينات القرن الماضي اتبعت بعض تلك البلدان وصفات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وهي البلدان التي ازدادت فقراً والتي غرق اقتصادها بعد ذلك في تضخّم وعجز شديدين. بينما قرّرت بلدان أخرى، مثل ماليزيا مثلاً، أن تدرس ظروفها وتجد الحلول المناسبة لها بعيداً عن الوصفات الدولية الجاهزة وكانت النتيجة أنّ ماليزيا أصبحت من البلدان القلائل التي خرجت من تلك الأزمة باقتصاد متين وبقدرة على مواجهة أزمات المستقبل. ومع ذلك، ورغم كلّ هذا وذاك، استمرّت المدارس المنبهرة بالغرب تفتح حدودها لتحرك السلع الحرّ رغم أنّ هذا الانفتاح أدّى إلى توجيه ضربة مؤلمة للصناعات الوطنية في كثير من الأحيان. كما شجّع الاستيراد على حساب التصدير، مما أصاب ميزان المدفوعات بعجز يصعب إصلاحه. والجواب عن كلّ تساؤل منطقي كان أن لا أحد يستطيع الوقوف في وجه هذا التيار أو اختيار طريق آخر غيره. ولا يمكن لأحد أن ينكر طبعاً أنّ التوجّهات العالمية تفرض مسارها، ولكن من المستغرب أيضاً أن تسير دول وبلدان في ظلّ تيّار دون دراسة صلاحية هذا التيار لحاجاتها الوطنية وازدهارها المستقبلي، إذ لا يوجد شيء يفرض كلّ حركة وقرار وأنموذج عمل على الآخرين إلا إذا أثبت جدواه ومنافعه للآخرين. وبما أني لست مختصّة في المجال المالي أو الاقتصادي، فإني أريد أن استفيد مما حدث لألقيَ الضوء على تبعيات أخرى قد تنذر بكوارث اجتماعية وثقافية ووجودية أشدّ خطراً من الأزمة المالية الحالية. رغم كلّ هذه الأزمة، وكلّ ما يشاع ويُقال، فإنّ الذي تسرّب من بين السطور هو أنّ المتقاعدين والطبقات الأفقر كانت أشدّ تضرّراً بينما هناك حماية أكبر لأصحاب رؤوس الأموال الكبرى. وهكذا فإنّ هذا النظام الذي وجّه أشدّ اللوم والانتقاد لتدخّلات الدول في الاقتصاد يتدخّل اليوم، هو نفسه، لحماية اقتصاد بلدانه، ويعود إلى التأميم الذي كان رمزاً للاشتراكية التي لفظها النظام الرأسمالي واعتبرها صنوَ القمع والأتوقراطية وكبح الحريات، بالضبط كما اعتبر الحركة الحرّة للمال ملازمة للديمقراطية وحرية التعبير. واليوم نكتشف أنه لا توجد حرية مطلقة في شيء، بل أسس للحفاظ على أصحاب رؤوس الأموال على حساب الطبقات الفقيرة والمتوسطة التي كانت الضحية الأولى في هذه الأزمة.

ترافق مع النظام المالي والاقتصادي الرأسمالي عمل دؤوب على نشر ثقافة غذائية واجتماعية وفكرية ذات منشأ غربيّ يتمّ تعميمها على حساب الثقافات الأصغر والأقلّ قدرة على المقاومة. ونتيجة هذا التعميم، فقد تخلّت بلدان عديدة عن عادات غذاء صحي، وعن حرف تقليدية تنتج أشياء جميلة، واستبدلتها بأشياء سريعة الصنع ولكنها بشعة القوام والآخرة. وامتدّ تأثير هذه الموجة ليشمل الثقافة والتعليم واللغات في بلدان كثيرة من العالم. فللمرة الأولى نشهد في العقدين الأخيرين دولاً لا تعلّم العلوم بلغتها الأمّ، بل باللغة الإنكليزية أو سواها من اللغات الغربية، مما سبّب إهمالاً للترجمة واستحداث المصطلح، وبالنتيجة إهمالاً للغة ككلّ. والعذر هو أنّ التعليم في الغرب يتمّ في اللغات الحيّة فقط. وطبعاً تزامن هذا الأمر مع إهمال للجامعات والمدارس في البلدان الأخرى بحيث أصبحت الجامعات الغربية في الكثير من الاختصاصات المقصد الوحيد الذي يمكن أن يلجأ الطالب إليه. وامتدّ هذا التغريب إلى المدارس أيضاً بحيث تجد أطفال بلد ناطق بالعربية مثلاً، ويعيشون في البلد العربي مع ذويهم العرب، ولا يتحدّثون العربية بطلاقة ولا يكتبونها بمهارة. أوَ ليس هذا غريباً بالفعل أن يتخلّى الإنسان عن لغة آبائه وأجداده بحجّة شيوع لغة أخرى في العالم واستخدامها في الجامعات الغربية، بدلاً من النهوض بجامعاتنا إلى المستوى الذي يُنافس أهمّ الجامعات؟ وفي هذه الحال أيضاً هناك أمثلة إيجابية أمام أعيننا لمن يريد أن يرى، فالجامعات التركية تدرّس جميع الاختصاصات بالتركية، والجامعات الألمانية تدرّس بالألمانية، والإيطالية تدرّس بالإيطالية، وكذلك مدارسهم أيضاً، فلماذا لا يتشبّث أبناء الضاد بلغتهم الجميلة في مدارسهم وجامعاتهم، بينما عمد أعداؤهم على إحياء شبه لغة من العدم ويدرسون اليوم بها في مدارسهم وجامعاتهم؟

لا بل إنّ حالة الاستلاب وصلت إلى الانتاج الثقافي والمعرفي والفكري بحيث أصبحنا نشاهد على شاشات التلفاز المسلسلات التركية والروسية والمكسيكية المدبلجة باللغة العربية، والتي لا تنتمي إلى الحياة العربية لا نصاً ولا مضموناً. فهل عجز المسرحيون والكتّاب العرب عن كتابة نصوص تعبّر عن القيم العربية، وتساهم في تنشئة الجيل العربيّ بشكل لائق للمستقبل المرجوّ؟ إنّ هذا النمط من التفكير يخلق غربة بين الأجيال وما تتلقّاه من ثقافة وبعد عقد أو عقدين يحدث انسلاخ هذه الأجيال عن أبهى ما في تاريخها من حضارة وفكر وأدب وثقافة وفنون، لا بل إنّ حالة الاستلاب تمتدّ إلى استقدام أعمال تؤكّد على استسلام ملوكنا وحكّامنا في الماضي للامبراطورية الرومانية (الغرب) ونفرض هذا العمل على أجيالنا بدلاً من أن نفرض انتصارات أجدادنا وما بنوه وحقّقوه من حضارة، وما يحقّقه أبناؤنا اليوم رغم كلّ المعوّقات. قد تكون الأزمة المالية ذات تأثير مباشر على أصحاب الأموال في العالم العربي، وعلى النظم المالية والاقتصادية التي انساقت وراء النماذج الغربية، إلا أنّ الاستلاب الثقافي والإعلامي والمعرفي واللغويّ الذي أصبح حقيقة واقعة في معظم بلداننا العربية، يهدّد بنتائج أشدّ أثراً وأبلغ ضرراً، وقد لا يفيد اليوم بعد أن نصل إلى الكارثة، وقد لا يكون من الممكن حينئذ إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء وصنع أجيال منتمية لعروبتها ودينها، ومتجذرة بلغتها وثقافتها وحضارتها بعد فوات الأوان. فهل يمكن لعلماء اللغة والاجتماع والمعنيّون بالثقافة والفنون أن يتأمّلوا في التبعية العلمية والفنية والثقافية والفكرية القائمة، ويتأمّلوا الطرق المجدية للعودة عن هذا الاستلاب والتأسيس لمنتج علميّ وحضاري وثقافي عربي، ولأجيال تنبت هنا في تربتها، كما ينبت الزيتون، فتتعلم تاريخها بلغتها، وتطّلع على حضارتها، وتنتج ألوان ثقافتها من بيئتها، وتصل إلى العالمية بفكرها وإنتاجها من خلال عيش الواقع وتطويره وليس من خلال القفز من فوقه والاستهتار به والغربة الحقيقية عنه.

www.bouthainashaaban.com