(الباشا)

TT

(الباشا) هو اسم لمسلسل تلفزيوني قدمته قناة «الشرقية» العراقية على امتداد شهر رمضان وما أعقبه من أيام العيد الثلاثة. شاهدته عرَضاً، فأنا مُقل في مشاهدتي للتلفزيون.

انفردت هذه القناة بموقف سياسي وإعلامي شجاع في تناولها لأوضاع العراق، فهي تدعو لمصالحة وطنية تتجاوز الأحقاد وتعلو على كل الجراح. كما أنها تجاهر في اتهامها لواحدة من دول الجوار ـ دون أن تسميها ـ «بالعمل على زعزعة الأمن والاستقرار في العراق». وكان لا بد لهذه القناة من أن تدفع ثمناً لموقفها الشجاع. وكان الثمن دموياً باهظاً عندما اختُطف أربعة من صحافييها وأعدموا بعد ساعة من الاختطاف.

و«الباشا» المقصود بهذه التسمية هو نوري باشا السعيد، رئيس وزراء العراق الأسبق، الذي كان واحداً من ضحايا الانقلاب الدموي على نظام الحكم في العراق في 14 يوليو(تموز) 1958، وأتى على الأسرة الهاشمية المالكة بأسرها، رجالها ونسائها وأطفالها. هذا الانقلاب قام به عبد السلام عارف وعبد الكريم قاسم، وفتحا به أبواب جهنم على العراق، فهو لا يزال يعيش، منذ خمسين عاماً، عيشة الأحزان والقهر والدمار كأن لعنة من السماء قد حلّت به وحرّمت عليه نِعم الحياة.

هذا المسلسل التلفزيوني، في استعراضه للحياة السياسية لنوري (باشا) السعيد، يستعرض أيضاً تاريخ العراق منذ انسلاخه عن الإمبراطورية العثمانية في أعقاب الحرب العالمية الأولى، حتى ثورة 14 يوليو 1958. إنه يضع المشاهد العربي، أمام صورتين متناقضتين كل التناقض للسيد نوري (باشا) السعيد، فقد ظلت الصورة المستقرة في أذهان الكثير من العرب عن نوري السعيد هي صورة «السياسي العميل لبريطانيا والمنفذ الأمين لسياستها في الشرق الأوسط». هي الصورة التي صنعتها وسائل الإعلام المصرية في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر ونجحت في غرسها في الضمير العربي. كنت، في أواسط أعوام الخمسينات، سكرتيراً أول في وزارة الخارجية السعودية. وكنت، بحكم عملي، واهتماماتي الشخصية أيضاً، أتابع مكونات الصراع السياسي بين الرئيس جمال عبد الناصر ودول حلف بغداد (بريطانيا وباكستان وإيران وتركيا والعراق)، وكان عِداء الرئيس موجهاً، على نحو خاص، ضد نوري (باشا) السعيد، رئيس وزراء العراق، متهماً إياه بضلوعه ومساندته لحلف عسكري وسياسي مناهض للأماني القومية العربية.

كانت أعوام الخمسينات، أعوام اشتداد الحرب الباردة بين الاتحاد السوفياتي من جانب، والولايات المتحدة وبريطانيا من جانب آخر. كانت موسكو قد ضمت، بالهيمنة، تحت جناحيها جميع دول أوروبا الشرقية. وجمعتها في حلف عسكري اسمه حلف وارسو، كما أن بلاد آسيا الوسطى، المتاخمة في حدودها لتركيا وإيران، كانت جزءاً من الاتحاد السوفياتي، وامتدت موسكو أيضاً بنفوذها السياسي والعسكري لبعض الدول العربية.

وفي مقابل ذلك، عمدت الولايات المتحدة وبريطانيا، عام 1955، إلى إقامة حلف عسكري مكون من بريطانيا وتركيا وباكستان وإيران والعراق، اسمه «حلف بغداد». وقبله حلف آخر في جنوب شرقي آسيا اسمه الـ«سيتو» SEATO، عام 1954، فضلا عن حلف شمال الأطلسي في أوروبا. وتصدى الرئيس الراحل جمال عبد الناصر لحلف بغداد ووصفه بالحلف المناهض لأمانيه القومية العربية، وإعاقة حركات التحرر العربي، وعزل شعب العراق عن أشقائه العرب وربطه بحلف استعماري مشبوه النوايا أوعزت به الحكومة البريطانية، بكل ما عُرف عنها من تاريخ استعماري بغيض. وبدأت وسائل الإعلام المصرية حملة ضارية على نظام الحكم في العراق، وعلى رئيس وزرائه نوري السعيد بوجه خاص، وانطلقت إذاعة «صوت العرب» والإذاعات المصرية الأخرى، تجلجل في سماء العراق تحرض العسكريين وتستثيرهم وتستعديهم على نظام الحكم في البلاد حتى استجاب لذلك التحريض الغوغائي نفر من المغامرين ما لبثوا أن دارت بهم عجلة الانقلابات المتوالية وانتهت بهم إلى سوء المصير. وسيذكر التاريخ، يوماً، أن وسائل الإعلام المصرية، في عهد الرئيس عبد الناصر، تتحمل وزر هذا الانقلاب وما أدى إليه من تدمير بلد عربي ثري في موارده، ثري برجاله، مستقر هادئ سعيد.

منذ ذلك الانقلاب والذاكرة العربية، متأثرة بالضغط الإعلامي العراقي المتواصل لا تعرف عن نوري السعيد إلا صورة «العميل الخائن الضالع بسياسته مع الإنجليز».. وكان طبيعياً أن يواصل الانقلابيون العمل على تشويه صورة الحكم الذي انقلبوا عليه، وتدنيس رموزه، والإساءة لتاريخهم. فهم في ذلك يبررون دواعي الانقلاب، ويعتمدون في بقائهم في الحكم على هذا التبرير، ولا يتراخون يوماً عن تذكير شعوبهم بسوءات حكامهم السابقين. وغنيٌّ عن القول إن الانقلابيين لن يسمحوا بكلمة حق عن أولئك الحكام، فلا يجرؤ، إذن، أحد على استرجاع سيرتهم بما لها وما عليها. فهي في نظر الانقلابيين سيرة ليس فيها من المحاسن من شيء، بل إن فيها من السوءات ما يعجز التاريخ عن تدوينه.

لقد احتاجت الكلمة الحرة في العراق لخمسين عاما كي تطل برأسها من مغارات الاختفاء، هروباً من بطش الانقلابيين، وتقول رأيها في الأحداث.

خمسون عاماً والذاكرة العراقية، ومعها بعض من الذاكرة العربية، تختزن صورة نوري السعيد «المناهض للعمل القومي العربي، العميل البريطاني»، الذي نال عقابه على يد جمهرة من الغوغاء قتلته ومثلت بجثته تمثيلاً وحشياً مفزعاً.

خمسون عاماً كي يأتي كاتب اسمه «فلاح شاكر»، لا أعرفه، ولا أعرف حجم الموضوعية في ما كتب، ليقدم للناس صورة أخرى عن نوري السعيد. صورة السياسي الوطني الذي سعى لاستقلال بلاده، وانضمامها لعصبة الأمم، ومقاومته لتدخل الجيش في السياسة، ودفاعه عن الدستور وحكم القانون، وإنجاز الإصلاحات الداخلية العديدة والمساهمة في قيام الجامعة العربية.

وأعود لأقول إني لا أكتب تعزيزاً للرأي الذي انتهى إليه مسلسل (الباشا)، من قناعات، ولا أرتاب أيضاً بكل ما أتى المسلسل عليه، بل حتى أحيّي الكاتب فلاح شاكر بعد أن أحيِّي زمن الحرية الذي كتب فيه. ولعل من إيجابيات هذا المسلسل أيضاً أن عاد بنا، في رجعة تاريخية مؤثرة، إلى عراق كان متحاباً، متماسكاً، رغم تكوينه العِرقي والمذهبي، بالجوار، والمصاهرة، والتجارة، والعمل الوطني المشترك في مواجهة الإنجليز حتى رئاسة الوزراء كانت للشيعة والسنّة على السواء، فهي يوماً لصالح جبر، ويوماً آخر لنوري السعيد. ومسلسل (الباشا) يذكرنا أيضاً بمسلسل «الملك فاروق».

في مصر أيضاً احتاجت الكلمة الحرة لخمسين عاماً، بعد أن تحرر الإعلام المصري من سلطة دولة المخابرات، كي تقول ما تراه حقاً في تاريخ الملك فاروق. كان محظوراً على أي وسيلة إعلامية مصرية أن تأتي على سيرته بشهادة موضوعية منصفة، وهو الملك الذي عاش، كما ظلت تردد وسائل الإعلام المصرية، «حياة من البذخ، والفساد، والبُعد عن هموم الوطن»، وكان «أداة طيّعة في يد الإنجليز على حساب مصالح أمته» إلى أن جاءت الثورة لتنقذ البلاد من شروره.

وفوجئ المشاهدون المتابعون لمسلسل «الملك فاروق»، إن صحت الرواية، بملك يصارع الإنجليز من أجل الحفاظ على كرامة مصر، ملك وطني يحب بلاده، رغم كل ما قد يُؤخذ عليه من «مسلك شخصي مشين». لقد استوقفتني الأحداث التي أتى عليها مسلسل (الباشا) وأنا أجهل العديد منها، وشعرت بالتعاطف مع الباشا الذي مات أسوأ ميتة على يد جمهرة من (الهمَج)، مات مظلوماً تلازمه سمعة سيئة، مغرقة في السوء، كما أرادها له الانقلابيون.

ولا يكتفي الانقلابيون، عادة، بالسطو على إرادة الشعوب، والعبث بمقدراتها، بل يفرضون، أيضاً، على شعوبهم فهماً مزوراً للتاريخ.

* وزير سعودي سابق والأمين العام السابق لمجلس التعاون لدول الخليج العربية