بين «سبتمبرين»!

TT

أمريكا تغيرت وغيرت معها كل العالم بعد تعرضها للأحداث الإرهابية في الحادي عشر من شهر سبتمبر عام 2001، وفي سبتمبر الماضي ظهرت أعراض الأزمة المالية الكارثية في أمريكا والتي ستغير وضع العالم الاقتصادي بشكل كبير. في الستينات من القرن الميلادي الماضي حصل عالم الاقتصاد الأمريكي ميلتون فريدمان على جائزة نوبل في الاقتصاد بسبب نظرياته في الليبرالية الاقتصادية والتي تنادي دوما بترك الأسواق تعمل على حدة بدون أي تدخل حكومي على الإطلاق لأن الأسواق لديها «يد خفية» لديها القدرة على تعديل نفسها. وأسس فريدمان نهجا اقتصاديا مهما حذا حذوه الكثيرون لدرجة أن 70 في المائة ممن فازوا بجائزة نوبل للاقتصاد بعده كانوا يتبنون نفس فكره. وسار على دربه رونالد ريجان ومارجريت ثاتشر وقاما بالكثير من سياسات التحرير الاقتصادي. ولكن أحداث المرحلة الحالية تثبت ولا ريب أن نظريات فريدمان هي الخاسر الأكبر وأن الرأسمالية «تتحوش» إذا تركت بلا رقابة ورقيب. ولعل المثالين الفرنسي والسويدي يظهران كإضاءة باهرة في ظلمات الأزمة الحالية. أمريكا تعاني رسميا الآن من أعراض «اشتراكية» و«تأميم»، والنهج الذي كانت عليه الأمور لن يعود، ولكن هل هذه افتراضية صحيحة؟ فهناك من يشبه ما يحدث الآن بالركود الكبير الذي حصل للولايات المتحدة الأمريكية في عام 1929 عندما كان الرخاء كبيرا والإقراض سهلا واستدان الكل حتى غرقوا في مستنقع الفائدة وحصل الانهيار وأعلنت الإدارة وقتها عن مجموعة من الأنظمة والتشريعات التي أعادت هيكلة الاقتصاد برمته، ولكن ما أنقذ أمريكا هو تجميع كل قوتها باتجاه هدف موحد وهو الحرب على النازية في أوروبا والمحيط الهادي، وهي الحرب التي سميت بعد ذلك «الحرب الطيبة»، وهناك الكثيرون من المحافظين في أمريكا اليوم لديهم القناعة الكبرى بأن ما تحتاجه أمريكا فعليا هو «حرب طيبة» أخرى، خصوصا مع فشل الفكرة في العراق وأفغانستان لهشاشة الأدلة المروجة للدخول في الحرب، وكذلك لضعف الحجة وانعدام الدعم الدولي المؤازر لذلك. محزن وبائس مشهد المسؤولين الماليين في العالم عموما وفي العالم العربي تحديدا، وهم يحاولون تهدئة العامة من الناس بإيهامهم أنه لا توجد مشكلة بينما أسواق العالم تغرق مثل مركب ارتطم بجبل جليدي في وسط المحيط. هذا النوع من النفي لا يعالج المشكلة، ما يعالجها هو قرارات جريئة ومؤلمة مثل إيقاف التداول و«تدخل» مباشر مطلوب لحماية أسواق هشة وغير ناضجة (إذا الأسواق الناضجة حصل فيها تدخل فكيف لا يحصل في الأسواق الفقيرة؟!)، وكم كان لافتا الفارق في أسلوب التعامل والتعاطي مع الأزمة ما بين الولايات المتحدة الأمريكية وما بين أوروبا، أمريكا «سمحت» بسقوط بعض المصارف، وهذا فاقم من الوضع وزاد من تدهوره، ولكن أوروبا «تعهدت» بعدم سقوط أي مؤسسة مالية، وهذا كان عنصر دعم واستقرار مؤكدا. العالم يراقب إعادة ولادة للنظام الاقتصادي ونهاية الحقبة الرأسمالية الموحشة والإدارة الحمقاء.

[email protected]