في رحلة البحث عن الإصلاح

TT

سألني صديق مؤرخ: هل النظام العربي مصاب بالنسيان؟ قلت: على أي حال، ليس معروفا عنه قوة الذاكرة. قال: أنت تقطع عليّ الطريق. كنت أريد أن أسألك: ماذا حدث لمشروع الإصلاح؟ أجبت: المعوِّقات كبيرة. كان الإرهاب عقبة. إيران اليوم مشكلة. أنت تحرجني. تضعني في حالة دفاع عن النظام.

شعر الصديق الخبيث براحة. انتزع مني اعترافا. استأنف الهجوم. تبدو في كتاباتك أنك لا تتبناه. لكن في حالة دفاع عنه. قاطعته: البديل له أسوأ منه. أنتم، المثقفين، تشكلون جانبا مهما من معاناة العقل السياسي العربي: الانفصال عن الواقع.

قال: ربما. لكن أنتم، الصحافيين وكتاب السياسة، ملتصقون بالواقع. لا تستطيعون عنه فكاكا. استرسلت في الدفاع. تصوَّرْ. الإخوان هم البديل. نعم، النظام احتكر السياسة. بالأحرى ألغاها. لكن ترك الحياة الاجتماعية حرة. الإخوان لن يكتفوا باحتكار السياسة. يريدون أيضا التدخل في صميم الحياة الاجتماعية والثقافية، من مظهر ولباس وسلوك. مهدي عاكف مرشد الإخوان (82 سنة) قال طظ في مصر. نريد قولبة الفن والمسرح والثقافة. تصوَّرْ مهدي عاكف مخرجا مسرحيا. والظواهري نجما على الشاشة. وحسن حزب الله صاحب برنامج (اربح المليون) من إيران.

قاطعني صديقي المؤرخ بنبرته العلمية: لا تسترسل. أنت تعبث في موضع الجد. تصرفني عن الموضوع. عن الاصلاح. لندخل في التفاصيل. لنفكك عُقَدَ النظام العربي عقدة عقدة. أنا من الأغلبية الصامتة. هل تعدني بنقل رأي هذه الأغلبية، ولو مرة واحدة، إلى قرائك عبر صحيفتك؟ ترددت. خفت أن أعده. أعرف ان لكل صحيفة سياسة.

لم يتركني المؤرخ في حيرة. اندفع متحمسا بادئا بالنظام الجمهوري الرئاسي: المؤسسة الرئاسية أصيبت بانسداد تام. مؤسسة بلا خيال. ترتكب من الأخطاء والتجاوزات واحتكار السلطات والصلاحيات، بحيث بات مستحيلا على الرئيس أن يتقاعد. هو يجدد لنفسه باستمرار. يخشى على حياته ومن المحاسبة إذا تخلى عن السلطة.

«سأضرب لك مثالا تاريخيا». قلت أعفني من الأمثلة. قال: لا بد من المقارنة. عندما تولى السلطان محمد الثالث الخلافة العثمانية (1565) قتل 19 شقيقا وأخا وابن عم. مع ذلك هناك أصوليون يطالبون باستعادة مؤسسة الخلافة! صدام قلد الخليفة: صرع شقيق زوجته. صفّى صهريه وصفا طويلا من القادة السياسيين والعسكريين ليفسح الطريق لتوريث ابنه قصي. مكَّنه من السيطرة على الجيش والمخابرات والحرس الجمهوري ومؤسسة تهريب النفط، وتقديم «البونات» للمحاسيب في العراق والعالم. شكرا لصدام! ترك عدي مسؤولا فحسب عن الصحافة والتلفزيون والرياضة. تصوَّرْ عدي رئيساً.

تدخلت: لكن أصحابك في المؤتمر القومي العربي بكوا صدام. لم يقولوا كلمة واحدة في نقده. ألم أقل إنكم مفصولون عن الواقع. العقل الاسلامي المتسيِّس يعاني من العقدة ذاتها. غير قادر على تكييف الإسلام مع الديمقراطية والعصر.

كأن صديقي غير سامع أو آبه. استمر في ضرب الأمثلة: عندما وجد الأخ معمر أن ترقيع الوجه بعمليات التجميل لا تكفي لترقيع النظام، راح يعد نجله السياسي للوراثة. الفراغ هائل. اختفى رفاق الثورة. اختفى الساسة. بل ها هو يعاقب سويسرا. فقد تجرأت على محاسبة ابن آخر دوَّخ أوروبا بتجاوزاته مع كلابه ونسائه.

قلت: دع صدام والقذافي. ربما كان التوريث مفيدا في تأمين سلمية نقل السلطة واستمرار الاستقرار. النظام الملكي الوراثي اثبت قدرته ونجاحه في هذا المجال. بل هو اليوم رمز الوحدة الوطنية في المغرب والسعودية والأردن. قال: النظام الملكي العربي يملك الشرعية التاريخية. على العكس، في النظام الرئاسي: مَن لا يملك يورث مَن لا يستحق. في سورية، عدلوا الدستور في نصف ساعة. صرفوا عبد القادر قدورة عمدة البرلمان الذي بصم أعضاؤه التعديل. بل جددوا للوريث مرة ثانية وربما.. ثالثة ورابعة إلى أن يأتي دور الحفيد حافظ الثاني... حفظه الله.

في تونس والجزائر واليمن هناك تجديد تلو التجديد. بات الرئيس مدى الحياة. وظل النظام «جمهوريا». حتى محمود عباس يريد التمديد. هل خلت فتح من مرشحين؟ لماذا لا يتم إحراج إسرائيل وأميركا أمام العالم بانتخاب الأسير مروان البرغوثي رئيسا؟

قلت مهوِّنا بشيء من الدعابة: لعل الابن «الولد» الذي تعرفه خير من «المرشح» المجهول الذي تتعرف عليه. خذ الرئيس الموريتاني المخلوع. أراد إقصاء الجنرالات الذين رشحوه ثم أوصلوه وسط «أهزوجة» ديمقراطية دعائية. دعنا الآن من الشكل الظاهري للنظام. لنعد إلى صميم مشروع الإصلاح. ما هو اعتراضك عليه؟

قال: اختفت مشاريع ومناهج الإصلاح، بعدما أصبح بوش في نهاية ولايته بطة عرجاء. قلت: اعتبر بوش انسداد النظام العربي سببا في ازدهار الإرهاب. طالب بالإفراج عن الحريات العربية، وضيق بحجة الأمن على الحريات الأميركية!

«أنا مع النظام العربي في رفض الإصلاح المستورد من الخارج». يقول صديقي المؤرخ: «لا سيما عندما ارتبط من جهة بنظرية المحافظين الأميركيين الجدد في (الفوضى الخلاقة)، ومن جهة بالدعوة لإنشاء منظمة إقليمية (مشروع الشرق الأوسط الكبير) لتمكين إسرائيل من التطبيع مع العرب والهيمنة عليهم، والقفز فوق الرقم الفلسطيني».

يضيف: «المشكلة الآن أين اختفى الإصلاح؟ لا بد من البحث المُضْني عنه تحت الفُرُش والكراسي». قلت: كان النظام العربي على حق. كانت الديمقراطية العراقية المستوردة، مع الفوضى الخلاقة للاحتلال، برقعاً أسود للطائفية والمذهبية والفيدرالية التقسيمية وللإرهاب.

قال الصديق: لا أشعر أن المسافة بيني وبينك بعيدة. لِنُنْهِ الجدل بالتسوية. قلت: موافق. قال ضاحكا: «شرط أن أحتكر عرض تفاصيل الحل».

من دون أن ينتظر جوابي، بدأ من حيث انتهى الأمير سعود الفيصل (الإصلاح يجب أن يكون متدرجا). سألني: ما رأيك في أن نبدأ في تدريس مادة «التربية الديمقراطية». لا تسامح بلا إيمان اجتماعي بقبول العربي بالآخر العربي. تقدمت مصر والسعودية (2004) بمشروع لتطوير الجامعة العربية، وتوسيع المشاركة السياسية، وتنسيق السياسات الخارجية، وفرض الإلزام في قرارات الجامعة العربية، ولو اتخذت بالأغلبية.

قلت: أعتقد أن الإلزام مستحيل في جامعة عرجاء تتخذ قراراتها بالتفاهم والتسوية. لكن المشروع المصري السعودي خطوة سياسية واسعة. تضع العرب، لأول مرة في تاريخهم، على عتبة مشروع اتحاد فيدرالي، شبيه بالاتحاد الأوروبي، لا يفقد الدولة العربية سيادتها وعاصمتها ووزارة خارجيتها، شرط أن تتفق قراراتها مع مصلحة الاتحاد، مع المصلحة القومية العليا. كان عبد الناصر مخطئا في اعتقاده أن النظام الملكي غير مؤمن بالوحدة القومية. الاتحاد الأوروبي يضم ملكيات وجمهوريات. يمكن أن ترعى مصر الجمهورية والسعودية الملكية مشروع الاتحاد العربي المفتوح أمام من يرغب من العرب الانضمام إليه.

قال صديقي المؤرخ الخبيث: هل تتكلم في الوهم. قلت: أتكلم عن الأمل. في السياسة، لا شيء يبقى مستحيلا حتى الأوهام.