عالمية الأزمة

TT

اسئلة كثيرة تحيط بمستقبل العالم بعد الأزمة المالية الحالية التي ضربت بشكل شديد المصارف والمؤسسات المالية بما هدد بشلل في النظام المالي الدولي الذي يعد بمثابة الشرايين التي يتدفق منها التمويل الى كافة الانشطة الاقتصادية، وأول الاسئلة هي المدة التي سيحتاجها العالم للخروج من تداعياتها، ومدى شدة الركود الاقتصادي الذي سيصاحبها، فهل يكون مماثلا للكساد الكبير الذي ضرب العالم في العشرينات من القرن الماضي وجاءت بعده مؤسسات بريتون وودز التي لا نزال نعيش في ظلها حتى اليوم.

لا توجد إجابات واضحة لدى أحد حتى الان، فهناك سيناريوهات وآمال بان تكون خطط الإنقاذ غير المسبوقة في التاريخ البشري الحديث، من حيث حجمها في الولايات المتحدة واوروبا، كافية لإعادة الثقة المفقودة في الاسواق بما يؤدي الى اعادة الحياة الى عمليات توفير السيولة الحالية بما يجعل البنوك تستأنف نشاطها التقليدي في تدوير الاموال من خلال عمليات الإقراض في ما بينها. لكن لا أحد لديه على وجه اليقين صورة واضحة عما إذا كانت الازمة ستأخذ عاما او عامين او عشر سنوات كما حدث في المصارف اليابانية والقطاع العقاري هناك في الثمانينات.

ولعل ذلك هو سبب الاجراءات غير المسبوقة التي كانت غير متصورة منذ حتى اشهر قليلة، فمن كان يتصور ان تضطر الولايات المتحدة وبريطانيا ودول اوروبية اخرى الى التدخل لتقوية مصارفها باجراءات تحمل معها تأميما جزئيا، مستخدمة في ذلك اموال الخزينة، أي أموال دافعي الضرائب؟ والملاحظ أن الاجراءات التي اتخذت في تقوية رأسمال البنوك الكبرى في بريطانيا استهدفت كما ذكر تقويتها لمواجهة تسونامي اقتصادي بما يعني ركودا شديدا. ومن كان يتصور مثلا ان تفلس مصارف بلد بأكمله حتى لو كان صغيرا مثل آيسلندا، او تضطر روسيا ـ التي رأت بورصتها تفقد ثلثي قيمتها ـ الى وقف التعاملات، وتتدخل دول عديدة كبيرة وصغيرة لضمان كل ودائع البنوك حتى تتفادى سيناريو رعب تصطف فيه طوابير المودعين لسحب أموالهم نتيجة الافتقاد للثقة في أن اموالهم في أمان. فداحة الأزمة، والطريقة التي تنتشر بها، كشفتا نقاط ضعف تراكمت خلال سنوات طويلة في الطريقة التي كانت تدار بها الامور في عولمة غير مسبوقة كانت المؤسسات المالية قوة دافعة رئيسية فيها جعلت من العالم قرية صغيرة، فعلاً لا قولاً، واستطاعت تجاوز حدود الجغرافيا والسياسة، وتجاوزت سلطتها وتأثيراتها الحكومات التي كانت تلهث وراءها لملاحقة أدواتها المالية المعقدة، والتي كانت تشمل كل قارات العالم من وراء شاشات تبعد عن بعضها آلاف الاميال.

نقطة الضعف الرئيسية، التي بدأت تتضح تدريجيا وجعلت رؤساء حكومات يدعون الى قواعد دولية جديدة تنظم هذه الاسواق والاعمال على مستوى دولي، هي أن هذا التطور الهائل الذي شهدته العولمة المالية، بأدواته وأسواقه، لم يقابله تطور مماثل في النظام الإشرافي الدولي المنظم للأنشطة، فما زالت المؤسسات القائمة المعتمدة على الواقع الدولي الذي افرزته الحرب العالمية الثانية هي التي تنسق التعاون الدولي، في حين أن السوق تجاوزها بكثير.

وهذا ما يجب ان يركز عليه العالم، نظام دولي جديد يتناسب مع التطور الذي شهده العالم ويستطيع مواجهة تحديات المستقبل، وليس العودة الى الوراء، فتدخل الدولة مطلوب في الازمات كما حدث، لكن لا أحد يتحدث عن عودة الدولة الى إدارة النشاط الاقتصادي بنفسها، ويجب ألا ننسى ان العالم كله استفاد من العولمة المالية، فالسيولة التي كانت تنتقل من سوق الى آخر استفادت منها دول كثيرة وبينها دول نامية في الاقتراض من السوق مباشرة لتمويل مشروعات وبتكلفة رخيصة وبدون شروط سياسية، وكان الاعتماد فقط على شروط الجدوى الاقتصادية والربحية، وهذا ينطبق على الدول العربية بشكل او آخر، سواء من خلال الاقتراض المباشر او الإصدارات لشركاتها في السوق الدولية لتوفير التمويل للتوسعات او المشاريع الجديدة، او من خلال توظيف الفوائض المالية في وسائل استثمارية دولية للمحافظة على هذه الفوائض وتعظيمها.

وكما شاهدنا فإن أزمة السيولة تمتد في تأثيراتها وإن كانت بدرجات متفاوتة من سوق الى سوق بحكم ارتباط المصارف والنظام المالي في العالم ببعضه، فعدم توفر السيولة يعني تأجيل مشاريع او رفع تكلفتها نتجية ارتفاع تكلفة الإقراض، كما أن الركود في أكبر اقتصادات العالم يمتد في تأثيره الى التجارة العالمية، والمهم ان تكون هناك اجراءات احترازية لمواجهة أوقات صعبة وأهمها تقوية رؤوس أموال المصارف ومراجعة نسب إقراضها الى ودائعها.