أخطاء أكتوبر 1973

TT

ارتبطت حياتي بشكل أو آخر بحرب أكتوبر 1973 حينما كنت واحدا من ذلك الجيل من المصريين الذين قدر لهم المساهمة في الحرب بعد عملية التجنيد الكبرى التي جرت لشباب مصر بعد حرب يونيو 1967. وكما كانت الحرب العالمية الثانية هي المحدد لحياة جيل من الأمريكيين والأوروبيين والآسيويين، وحرب فيتنام ومن قبلها كوريا محددة لمستقبل أجيال من الأمريكيين والفيتناميين والكوريين؛ فإن حرب أكتوبر كانت بالتأكيد المحدد لذلك الجيل من المصريين. وبعد أربع سنوات من التجنيد والمشاركة في الحرب والعودة إلى الحياة المدنية مرة أخرى ظلت تلك الحرب معي كموضوع لرسالة الدكتوراه «الولايات المتحدة وأزمة الشرق الأوسط أكتوبر 1973 ـ جامعة شمال إلينوي 1982»، ثم بعد ذلك كموضوع للبحث والدراسة وأخيرا البرامج التلفزيونية. وما لم يقل أهمية عن كل ذلك كان حرب أكتوبر كموضوع للنقاش العام في العالم العربي ومصر خاصة ـ وحتي إسرائيل ـ حيث كانت الحرب أول انكماش للإمبراطورية الإسرائيلية التي وصلت إلى أقصى توسعاتها في يونيو 1967؛ ومن جانب آخر كانت أول خطوات السلام مع الدولة العبرية. ولكن ما كان مقلقا في هذا النقاش أنه بينما كان حافلا على الجانب الإسرائيلي بالنقد والتقييم وكشف الأخطاء والعورات من أول التحقيق الذي أجرته لجنة أجرانات وحتى ما كشف أخيرا عن أخطاء المخابرات الإسرائيلية (قصة الدكتور أشرف مروان)؛ فإنه على الجانب العربي ظل غارقا في الاحتفالية الشديدة من ناحية، والحسرة على ما سمي ضياع نتائج الحرب من جانب آخر. وببساطة كان الفكر العربي مشغولا للغاية بترجمة حرب أكتوبر إلى آيديولوجياته الداخلية حول مناهج التطور في الدولة العربية في العموم والدولة المصرية بوجه خاص. أما الحرب ذاتها فقد بقيت فوق النقد لأنها كانت بداية استعادة الأرض وتحرير سيناء لدى جانب آيديولوجي ولأنها كانت الدليل على أنه كان ممكنا سحق إسرائيل والتخلص منها لدى جانب آيديولوجي آخر. وفي مقال أخير للصديق الدكتور محمد السيد سعيد في صحيفة «البديل» المصرية كان انتقاده لنتائج حرب أكتوبر أنها لم تقد إلى «مشروع نهضوي عربي» يسير بالأمة إلى حيث لم تسير من قبل!

وهكذا ضاعت الفرصة لمناقشة الحرب ذاتها وما جرى فيها، وربما لو كان ذلك ممكنا لكانت كل أنواع هذه النقاشات والشجارات قد وضعت في إطار آخر غير إطار استثمار نتائج الحرب أو الجدل حول شخصية الرئيس السادات وقراراته. وعلى سبيل المثال فإنه لم يسبق خارج الملاسنات الكلامية أن جرى فحص عسكري للأداء السوري في الحرب حيث نجح الطرفان السوري والمصري في مفاجأة الجانب الإسرائيلي استنادا إلى خطة خداع مصرية خالصة لحما ودما. وكانت نتيجة الخداع والمفاجأة أن دخلت مصر وسوريا الحرب قبل قيام إسرائيل بالتعبئة العامة، وبينما كان على مصر أن تخوض معركة على جبهة قدرها 170 كيلومترا فإن سوريا كان عليها أن تخوض معركة عل جبهة قدرها 25 كيلومترا وفي ظل تفوق ساحق على إسرائيل يصل في الدبابات إلى سبعة أمثال القوة الإسرائيلية. وبالفعل كان النجاح المصري والسوري ساحقا حيث نجحت القوات المصرية في عبور قناة السويس وتدمير خط برليف قبل مرور 48 ساعة على بدء العمليات، ونجحت القوات السورية في الوصول إلى جبل الشيخ قرب الحدود السورية الدولية. ولكن ما جرى بعد ذلك لم يلق أبدا الاهتمام الكافي حيث نجحت القوات المصرية في التمركز على الجانب الشرقي لقناة السويس وتمكنت من تدمير هجمات مضادة مدرعة كاسحة تحت ضغوط كبيرة من الطيران الإسرائيلي؛ أما ما جرى على الجانب السوري فقد كان مفاجئا تماما، فبعد النجاح الذي وصلت إليه في مساء السابع من أكتوبر فإنها أخذت في التراجع في اليوم التالي حتى عادت إلى خطوط ما قبل القتال ثم توغلت القوات الإسرائيلية ما بعد هذه الخطوط في اتجاه دمشق قبل نهاية اليوم الثالث من القتال في التاسع من أكتوبر. وكان الفارق بين ما جري في الجبهة المصرية والجبهة السورية أن الأولى أقامت رأس جسر كامل عززته بأكثر من 130 ألف مقاتل من المشاة مكونا عمقا من الموانع الكفيلة بطحن الهجمات الإسرائيلية المضادة بينما لم تقم القوات المدرعة السورية بتعزيز مواقعها بقوات مشاة تستطيع الحفاظ والتمسك بالأرض المحررة.

معنى ما سبق أن سوريا فقدت ما فقدته في الحرب بينما القوات المصرية تقاتل في أكبر معاركها وتكبد إسرائيل خسائر فادحة والأهم من ذلك تعزز قدرتها على طحن القوات الإسرائيلية في الوقت الذي بقيت فيها احتياطياتها المدرعة سليمة وجاهزة لتطوير القتال في اللحظة المناسبة. ولكن للأسف فإن اللحظة جاءت ولم تكن مناسبة على الإطلاق؛ فبمجرد وصول الموقف في سوريا إلى ما وصل إليه بدأ الضغط على مصر من أجل تطوير هجوم لم تأت لحظته المناسبة ولا متطلباته العسكرية. وكان الضغط في البداية سوريا يدعو مصر إلى التوغل شرقا، وهنا ارتكب الرئيس السادات خطأه الأول في الحرب حينما بدأ في التخلي عن مبدئه بأن تكون إدارة الحرب للعسكريين المحترفين حيث ضغط عليهم لكي يقوموا بعمليات ليس لها هدف استراتيجي حينما تم الدفع بلواءين نحو عيون موسي في الجنوب وممر متلا في الشرق وكانت النتيجة خروجهما من إطار حائط الصواريخ المضادة للطائرات وتكبدهما خسائر فادحة انتهت بانسحابهما مرة أخرى إلى دائرة الحماية.

المدهش أنه بعد هذه التجربة تحول الضغط السوري على مصر إلى ضغط عربي شامل من كل الدول العربية خاصة الصديقة منها، وأضيف له ضغط سوفيتي إضافي رغم أن الإمدادات السوفيتية في ذلك الوقت إما أنها كانت صورية أو لا تسير في اتجاه الاحتياجات المصرية. ولم يكن هذا الضغط يستند إلى أية مبررات عسكرية قائمة على جبهة القتال، أو حتى مبررات إستراتيجية سوى التخفيف عن سوريا بغض النظر عما إذا كان ذلك سوف يكون ممكنا أم لا؛ أو عما إذا كان ذلك هو الطريقة الوحيدة للتخفيف عن سوريا أم أن هناك سبلا أخرى.

وهنا نكتشف مجموعة من الأخطاء أولها ينصرف إلى طبيعة أشكال التعاون العسكري بين الدول العربية حيث لا يوجد في تاريخ الحرب ما يدل على أن العواصم العربية كانت على علم كاف بخطة الحرب المصرية وإمكانياتها وحدودها وما أن حدث النجاح المصري في العبور ظهر الاعتقاد العربي بالقدرة المصرية على تحقيق المعجزات. وثانيها أن السادات مرة أخرى غلب السياسة على الحرب عندما رفض نصيحة القادة العسكريين الذين أجمعوا على خطورة تطوير الهجوم والتضحية بالاحتياطيات الإستراتيجية في معركة كانت تقوم بالأساس على طول النفس لزيادة زمن التعبئة الإسرائيلية، واستنزاف العدو في ظل ظروف متفوقة، وإثارة الوضع الدولي من أوضاع منتصرة. ولكن الرئيس السادات كانت له حسابات أخرى حيث لم يكن مستعدا لخلق تناقضات مع القادة العرب وبعضهم من أكثر المقربين له؛ ومن ثم كان رفض وقف إطلاق النار في يوم الثالث عشر من أكتوبر في الوقت الذي كانت فيه القوات المصرية تحتل احتلالا كاملا الجبهة الشرقية لقناة السويس؛ وأمر بتطوير الهجوم دافعا بالاحتياطيات في اليوم التالي حيث لم تكسب سوريا أكثر من 12 ساعة لم تستفيد منها عمليا بينما تعرضت الإنجازات المصرية الكبيرة إلى خسائر كبرى كان أهمها حدوث «الثغرة» بكل ما رتبته من نتائج عسكرية وإستراتيجية.

لقد كانت حرب أكتوبر انجازا استراتيجيا كبيرا حينما وضعت نقطة البداية لتحرير الأرض العربية حيث انتهى الأمر إلى تحرير سيناء كلها؛ وحتى على الجبهة السورية فقد كانت اتفاقية فصل القوات التي حررت القنيطرة من نتائج الحرب المباشرة. ويحسب هذا الإنجاز للرئيس السادات والقوات التي قاتلت واستشهدت على الجبهتين المصرية والسورية؛ ومع ذلك فإن الحرب من الناحية الموضوعية ظلت أسيرة للأساطير، والمناقشات البيزنطية التي ليس لها علاقة بما جرى، وآن لكل ذلك أن يتغير!