مراهنات مفتوحة على التعددية القطبية

TT

اشتعلت المراهنات في أفق احتمال مرجح لعودة التعددية القطبية. يمكن القول إن بعض دول الجنوب أخذت تتصرف وكأن الأمر حاصل. ويذهب بي الذهن إلى أميركا الجنوبية، حيث تتنوع المواقف تجاه الجار الشمالي الذي أراد دائما أن يحتفظ لنفسه بالكلمة العليا في شؤون القارة شمالها وجنوبها.

ويمكن أن نقسم دول شبه القارة إلى ثلاثة أصناف. يضم الصنف الأول دولا يسارية هي كوبا، التي هي حالة استثنائية، ودولا انخرطت منذ منتصف الثمانينيات، في مسلسل ديموقراطي أدى إلى التناوب بين اليمين واليسار، مثل ما حصل في نيكاراغوا والإيكوادور. بينما تعرف فنزويلا وبوليفيا رجة من جراء رغبة قادتهما في صياغة ما يسمى بيسار القرن الحادي والعشرين.

ويضم الصنف الثاني دولا يسارية أيضا لكنها تلتقي في أنها مستقرة في اختيارها الديموقراطي، هي البرازيل وأرخينتينا وشيلي وأوروغواي والبيرو. وقد تعززت دول هذا الصنف في هذا العام بالبراغواي التي فاز بالرئاسة فيها راهب سيكون عليه في الخمس سنوات القادمة أن يثبت أن خطاب الديموقراطيا قابل للترجمة من على منصة البرلمان، وفي منبر بيت الله. أما الصنف الثالث فتمثله ميكسيكو وكولومبيا.

ولا شك أن الأكثر إثارة للتأمل هي فنزويلا التي يقودها شافيز. وقد رسم هذا لنفسه خطا صريحا يقوم على أساس العداء البات للولايات المتحدة. وما زالت ترن في قاعة الاجتماعات الكبرى للجمعية العامة للأمم المتحدة الكلمات التي افتتح بها خطابه في الدورة 62 حينما أشار إلى أن القاعة كانت ما تزال موبوءة بالكبريت المتبقي فيها منذ أن تكلم فيها يوما من قبل الشيطان الرجيم جورج وولكر بوش.

ومنذ أسبوعين كان قد تلفظ بكلمات بذيئة في حق الأميركيين إذ قال في حقهم إنهم يانكيون مصنوعون من «الميـيردا». وهذه كلمة بالإسبانية تعني ـ حاشاكم ـ مادة لها رائحة كريهة. وقبل ذلك كان قد نطق في حق الرئيس الكولومبي بشتائم مقذعة علانية تضمنت أوصافا وضيعة. وبسبب التعريض بأثنار في قمة سانتياغو أحدث أزمة مع إسبانيا.

وفي سياق تصديه لكل خطوة تتعلق بالسياسة الأميركية، هدد شافيز بقطع النفط عن الولايات المتحدة إذا ما استمرت في معاكسة أصدقائه في القارة. ويشكك مويسيس نعيم، الوزير الفنزويلي السابق، للتجارة ورئيس تحرير مجلة «فورين بوليسي»، في أن يتمكن الرئيس العقيد من تنفيذ تهديده لأن 60 % من مداخيل فنزويلا في الوقت الحاضر مصدرها مبيعاتها من النفط في السوق الأميركية.

ولكنه كشأن بعض زعماء الدول النفطية الذين يبنون سياساتهم على ما يملكون من البيطرودولار، خطط شافيز لتحرك واسع في المجال الدولي. وحرص على أن يقول مؤخرا إن الولايات المتحدة توجد في حالة انحطاط بينما روسيا والصين توجدان حاليا في الأوج. ولهذا توجه إليهما مراهنا على التعددية القطبية التي أخذت تلوح في الأفق الدولي. وفسر خطته بأنه فيما مضى كان على المرء أن يذهب إلى واشنطن ليحصل على أموال تمكن من تمويل المشاريع الاقتصادية، أما الآن فإن الأموال موجودة.

وقد استهدف شافيز من وراء مفاتحته للصين أن يتمكن من الاستغناء في مستقبل منظور عن أن يطرق باب جارته الشمالية. وحسابه يقوم على أساس أن التعطش النفطي للصين يغري بأن تتطور مبيعات فنزويلا لهذا البلد من 250 ألف برميل في اليوم حاليا ( حسب أرقام أبريل ) إلى 500 ألف برميل في اليوم سنة 2010، ثم إلى مليون في 2012 تبعا للاتفاقات التي تم إبرامها بين البلدين.

وبمقتضى تلك الاتفاقات فإن الشركة الوطنية الفنزويلية ستبني في الصين ثلاث مصافي للنفط، وستبني الصين وستستـثمر في فنزويلا مصافي في ولاية أورينيوكو لتصدير النفط إلى الصين وأقطار أخرى. كما ستشيد الصين لفنزويلا ثلاث ناقلات ضخمة لحمل النفط الخام الفنزويلي إلى الصين. وتعهدت الصين بأن تضخ في الصندوق المشترك للتنمية 4000 مليون دولار وستضع فنزويلا من جانبها 2000 مليون دولار، لإنجاز مشاريع اقتصادية اتفق عليها في السنة الماضية. وفي فاتح نوفمبر المقبل ستقوم الصين بإطلاق قمر صناعي فنزويلي بصاروخ صيني. وستحصل فنزويلا على 24 طائرة مطاردة من الصين.

وقد عقب شافيز على هذه المشاريع مع الصين بقوله إن البلد الآسيوي الكبير قد برهن على أنه ليست هناك حاجة لإهانة الطرف الآخر لكي يكون البلد قوة عظمى. ونظرا لتقدم المخططات المتفق عليها، فإن السخونة الخاصة التي تكتسيها تصريحات الرئيس الفنزويلي بخصوص الولايات المتحدة ليست مجرد نزوة خطابية أو حماس سابق لأوانه.

وتدخل في نفس الاتجاه محطته الروسية، مع فارق وهو أن الأمر يتعلق هنا بالغاز وليس بالنفط. وهناك ما يفيد أن فنزويلا تحتضن ثاني احتياطي للغاز بعد الولايات المتحدة في نصف الكرة الغربي. وسينفق الروس في السبع سنوات القادمة 850 مليون دولار على مشاريع غازية في فنزويلا.

وهذه كلها مظاهر تبين إحدى نتائج الغياب الذي قارب الإهمال من طرف الولايات المتحدة فيما يخص أميركا اللاتينية. ففي عهد بوش، الذي انشغل بتلبية مطالب إسرائيل، تعلم جيرانه الجنوبيون أن يتصرفوا بحساباتهم هم، ويبحثوا عن شركاء أقل ولعا بتصنيف الدول حسب قابليتها للانتماء إلى محور الشر، وإصدار الغفران على من برئ وذلك تبعا للمواصفات التي وضعها الليبراليون «الجدد» سابقا.

والصين فعلا معروفة بالجدية وبالدرس المعمق لخطواتها، وبالابتعاد عن نزوات تنطوي على إهانة الشركاء. إن الصين تقدم قروضا لبناء مدارس وموانئ ومستشفيات، وهي بذلك ـ كما قالت جريدة لوموند الفرنسية منذ شهور ـ تعوض الخصاص الذي تركه الغربيون. إذ أعلنت الصين عن تخصيص 5 مليارات دولار في فترة 2007/ 2009 لبرامج التعاون، بينما يعجز أعضاء مجموعة السبع عن الوفاء بوعودهم بشأن الاستثمار في أفريقيا. والصين عازمة على مواصلة تحقيق نسبة نمو قدرها 11 % سنويا. وهي تتصرف بمسؤولية من أجل تلافي مزيد من التدهور في قيمة الدولار، رعاية للاحتياطي الذي يتوفر لديها هي من العملة الخضراء.

ومن جهة أخرى كما قالت الجريدة المشار إليها، فلا مفر لأوربا والولايات المتحدة من أن تتحمل العجز الذي تسجله ميزانها التجاري مع الصين ( 158 مليار أورو و112 مليار دولار في سنة 2006).

وبالتالي فإن اللقاء الثنائي الذي دشنته أميركا مع الصين سيصبح في السنوات القادمة أمرا أكثر ضرورة من اجتماع مجموعة السبع، بحكم أن الصين التي يمثل إنتاجها الوطني اليوم ثلث الإنتاج الوطني للولايات المتحدة، سيكون لها في 2035 إنتاج وطني أكبر من الولايات المتحدة، وأما في 2050 فسيضاعفه.

وستتحول الصين إلى قاطرة للاقتصاد العالمي، مثل ما هي اليوم الدولة الوحيدة التي تنمو بشكل مطرد. وبدون أن توجه تهديدات للغير ولا أن تبدي رغبة في فرض الشروط، ستصبح قطبا في السياسة العالمية له وزنه. وبهذا فإن مخططات فنزويلا قد تثبت أن غضب واشنطن ليس هو نهاية العالم، ومن جهة أخرى أن شراسة شافيز تجاه الجارة الشمالية هي أكبر من مجرد عنف كلامي مجاني، بل جزء من استراتيجيا تكتنفها مراهنات في أفق تطور يبدو أنه وشيك الوقوع.