لو كنت ذكر (أوز)

TT

هناك نوع من طيور الأوز، يتزاوج الذكر مع الأنثى ولا يفترقان إلاّ بعد الممات، وهما يختلفان اختلافاً جذرياً عن باقي بعض البشر، فليس لديهما ولا يعرفان زواج المتعة أو العرفي أو المسيار أو المصياف أو (الموانسة) ـ وهذا النوع من الزواجات هو آخر (الموديلات)، الذي تفتقت به قريحة وعبقرية بعض الرجال لقضاء أوطارهم، ولا أخفيكم أن حكاية (الموانسة) هذه راقت لي بعض الشيء (وحليت بعيني)، وعندما قرأت عنها (ارتخت لها أذني) قليلا، وأخشى ما أخشاه أن أخوض تجربتها يوماً ما، عندما أصل إلى أرذل العمر ـ مع أنني في الواقع أعيشه أحياناً ـ خصوصاً عندما تكبح الظروف عزائمي وحياتي ـ. أعود لذلك الأوز الذي يزن كل واحد منهما نحو ستة كيلوغرامات، ولهما عنقان طويلان مكسوان بريش أسود حالك مع ريش أبيض كالثلج تحت ذقنيهما، ولهما جسمان ممتلئان متناسقان تناسقا جميلا، ومن مزاياهما أنهما يتنقلان دائماً بكبرياء واضحة لا تخطئها العين، وهما يهاجران سنوياً برحلة الشتاء والصيف، من القطب الشمالي إلى أواسط قارة أمريكا ذهاباً وإياباً.

وسبق لي أن قرأت مذكرات صياد متقاعد، ويذكر تجربته مع ذلك النوع من الطيور الذي يتشوق كل صياد إلى صيده لما للحمه من لذة لا تقاوم.

ويقول: شاهدت مع رفاقي (زوجا وزوجته) من تلك الطيور وقد حطا في مستنقع وحقل مزدهر بعد رحلة شاقة وطويلة، كانا يهسهسان ويكركران ويأكلان، وبين الحين والآخر كان عنقاهما الطويلان يلتفان على بعضهما البعض، بمحبة أين منها محبة أزواج بعض البشر، ووجدتها فرصة سانحة لا يمكن تعويضها، والمشكلة أنه لم يكن في بندقيتي غير رصاصتين، وصوبت أول طلقة عليهما فسقطت الأنثى وفرحت بسقوطها، واندفع كلبي لالتقاطها، ولكنه قبل أن يلتقطها بفمه وإذا بزوجها الذكر يهاجمه بشراسة كبيرة، وأول ما سدد له نقرة محكمة على عينه جعلت الكلب يعوي ويتقلب على الأرض ثم يولي الأدبار هارباً والدماء تسيل على وجهه، فما كان مني من شدة الغضب إلاّ أن أوجه الطلقة الثانية والأخيرة على الطائر ومن سوء حظي أنني أخطأته، ساعتها استفرد بي، وإذا به ينقض عليّ مستهدفاً رأسي وعيني يريد أن يفعل بي ما فعله بكلبي، وأخذت أعدو وكلبي يعدو خلفي ولم نستطع النجاة من ذلك الطائر المقاتل إلاّ بعد أن التجأنا إلى أحد الأكواخ المهجورة، وكلما حاولنا الخروج انقض علينا بكل شراسة، إلى درجة أن كلبي من شدة الرعب والألم أفرغ كل ما في بطنه نهائياً، وأنا (شرحه)، ولم يتسن لنا النجاة إلاّ بعد أن خيم علينا الليل.

وبعد ثلاثة أسابيع ذهبت إلى نفس المكان ولشدة دهشتي، شاهدت بواسطة (الدربيل) المكبر، ذلك الطائر مع زوجته التي لم تمت وإنما كسر جناحها فقط، شاهدتهما يرعيان ويلتف عنقاهما على بعضهما البعض بين الحين والآخر.

ورغم أن طيور الأوز من فصيلتهما طارت وغادرت، إلا أن ذلك الزوج رفض أن يغادر إلاّ بعد أن شفيت زوجته، وفعلا شاهدتهما بعد أسبوعين آخرين وهما يحلقان سوياً في رحلة العودة.

وسؤالي هو: من هو ذلك الزوج الذي يشاهد زوجته وهي مكسورة الجناح ويقف معها ولا يتركها إلى آخر العمر؟!، عن نفسي أقول: لو أنني كنت ذكر أوز لفعلت مثلما فعل ـ هذا لو كنت ـ.

[email protected]