رهبانية إلا قليلا!

TT

منتهى أمل أي كاتب أو شاعر أو فنان أن تتوفر لهم العزلة الإبداعية.. أي العزلة التي تساعده في الإبداع بهدوء.. ولكن بعض المبدعين يفضلون الضوضاء. فالفيلسوف سارتر كتب روائعه في أحد المقاهي. وكان شاعرنا كامل الشناوي حريصا على أن يجمعنا حوله ويتفرغ هو ليكتب كأن لا أحد هناك.

وربما كان أهم الأحداث التاريخية أن الخليفة المأمون طلب من عالم النحو أبو زكريا الفرا (761 ـ 822) أن يتفرغ تماما لتأليف كتاب عن النحو. وترك له الطعام وأكواما من الورق وأعطاه حريته.

وابن خلدون أملى مقدمته في إحدى القلاع.. والرحالة الإيطالي ماركو بولو أملى رحلته في السحب. والأديب أوسكار وايلد كتب كتابه «من الأعماق» في السجن. وهتلر ألف كتابه «كفاحي» في السجن.

والرهبان يعيشون في ما يشبه السجن. ولكنه سجن اختياري.. ومن أشهر مدارس الرهبان الفرنسيين مدرسة «بور رويال».. وهي أحد الأديرة التي يتفرغ فيها الرهبان للصلاة والتفكير. لم أرها.. ولكن رأيت وتعلمت في الدير «الدومنيكى» في القاهرة. وكان أستاذي هو الأب قنواتي. وكان نموذجا للصفاء والرواء في الوجه والفكر والسماحة والأستاذية في شرح دقائق الفلسفة المسيحية.

ولذلك في العصر الحديث قامت الدول بتوفير جو الرهبنة للفنانين فأنشأت لهم قصور الثقافة.. والفنان ينفرد بغرفة رسم ويكتب ويعيش فيها بعيدا عن كل ما يشغله عن التأمل والإبداع.

وأنا في البيت منذ شهور لا أخرج، ولكن أعاني من ألم في إحدى ساقي ولولا هذا الألم الذي يلاحقني جالسا وواقفا.. ولا أستطيع أن أنام طول الوقت.. فوجدت الحيلة الوحيدة هي أن أفكر بوضوح في كل شيء وأكتب.. فهي رهبانية إلا قليلا.. وهذا القليل كثير جدا لو تعرف.. وقاك الله من مثل هذا الألم!