عودة سوريا العسكرية الى لبنان بانتظار انهيار أوضاعه الداخلية

TT

رغم ان الأميركيين، ومعهم الفرنسيون وربما الإسرائيليون أيضاً، يستبعدون هذا ولا يتوقعونه على الإطلاق وخلافاً لتطمينات دمشق المتكررة وأهمها ما قاله الرئيس بشار الأسد بهذا الخصوص للرئيس اللبناني ميشيل سليمان في آخر مكالمة بينهما، فإن معظم اللبنانيين يصرون على ان حكاية منع التهريب بالنسبة لحشد نحو عشرة آلاف من القوات السورية على حدود لبنان الشمالية لا يمكن الركون إليها ولا يمكن تصديقها، وإن الهدف الحقيقي لهذا الحشد الذي قد يتضاعف في أي لحظة هو طرابلس وجوارها ومنطقة عكار والشمال كله. وان ما يعزز تخوفات معظم اللبنانيين من عودة واقع ما قبل صدور قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1559 الشهير وقبل انسحاب القوات السورية من الأراضي اللبنانية، بعد وجود استمر لنحو ثلاثين عاماً، ورغم هذه التطمينات المشار إليها فان الرئيس الأسد أدلى بتصريحين متلاحقين أُعتبرا بمثابة إنذار بأن رياح سوريا الشقيقة ستهب هذه المرة من جبهة الشمال وليس من جبهة الشرق التي تتداخل فيها حدود الدولتين الشقيقتين المتجاورتين في نقاط كثيرة.

في التصريح الأول اعتبر الرئيس بشار الأسد، حسب أحد المسؤولين في أحد أحزاب لبنان الشديدة التبعية لسوريا، ان نتائج الانتخابات البرلمانية اللبنانية المقبلة سوف تكون انتصاراً لتحالف الثامن من آذار، الذي يقوده حزب الله ويوجهه كما يشاء، وأن الذين حققوا انتصار يونيو (حزيران) 2006 على إسرائيل سوف ينتصرون على عملاء إسرائيل. وهنا فان ما يجب استذكاره هو ان الرئيس السوري كان وقد وصف الحكومة اللبنانية السابقة التي كانت برئاسة فؤاد السنيورة أيضاً بعد حرب الانتصار الإلهي بأنها «منتج إسرائيلي» وانه لا بد من الإطاحة بها والقضاء عليها. أما في التصريح الثاني، وهو الذي جاء بعد نشر العشرة آلاف جندي في المناطق الحدودية السورية المتاخمة للشمال اللبناني والمتداخلة مع منطقة عكار اللبنانية وبعد متفجرة دمشق الأخيرة التي تردد ان ضابطاً سورياً كبيراً قد قُتل فيها، فإن الرئيس السوري قد «شكا» من أن مدينة طرابلس قد غدت بؤرة للإرهاب وقاعدة للقوى السلفية المتطرفة التي تستهدف سوريا وتشكل خطراً عليها.

وبالطبع فإن المؤيدين لوجهة النظر السورية هذه، من لبنانيين وغير لبنانيين، يعتبرون أنه من حق سوريا ان تدافع عن نفسها وعن أمن شعبها وأنه إذا كانت الولايات المتحدة قد بررت غزو أفغانستان بضرورة اقتلاع منظمة «القاعدة» وإسقاط نظام طالبان فإنه من حق الرئيس بشار الأسد ان يرسل قواته الى طرابلس والى غير طرابلس كما أرسلت القيادة الروسية قواتها الى جمهورية جورجيا عندما شعرت ان ما قام وما يقوم به الرئيس الجورجي ميخائيل ساكاشفيلي قد هدد مصالح موسكو الحيوية والاستراتيجية.

فهل حقيقة ان سوريا بعد هذا الحشد العسكري المكثف قبالة الحدود اللبنانية الشمالية باتت، في ضوء هذين التصريحين الآنفي الذكر اللذين أطلقهما الرئيس بشار الأسد، بصدد القفز لاحتلال مدينة طرابلس كخطوة أولى لاستعادة وجودها السابق قبل صدور قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1559 الذي انسحبت بموجبه القوات السورية انسحاباً كيفياً مس بكرامة هذه القوات بعد وجود فاعل في لبنان استمر لنحو ثلاثين عاماً ووصل حتى حدود التدخل في أصغر القضايا اليومية..؟

هنا لا بد من الإشارة الى ان وزير الخارجية الفرنسي برنار كوشنير قد لمح في تصريح له خلال زيارته الأخيرة الى القاهرة، الى ان الرئيس الأسد قد أبلغه بأن هدف قواته هو مخيما البداوي ونهر البارد الفلسطينيان، وهنا أيضاً يقول اللبنانيون الأقل تشاؤماً إنه إذا كانت حكاية ان سبب هذا الانتشار العسكري السوري بالقرب من الحدود اللبنانية هو منع التهريب غير صحيحة ولا يمكن تصديقها، فإن الهدف يصبح ليس العودة الى واقع ما كان عليه الوضع قبل صدور قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1559 فهو ضمان نتائج الانتخابات البرلمانية المقبلة سلفاً لمصلحة قوى الثامن من آذار، والدليل على هذا أن الرئيس السوري في أحد تصريحيه المشار إليهما آنفاً قال ان الشعب اللبناني سوف يحتفل بالانتصار الذي سيحققه في هذه الانتخابات «التي ستجري في موعدها» كما احتفل بالانتصار على الإسرائيليين وأعوانهم في حرب يونيو (حزيران) عام 2006. ويقول هؤلاء، وهم بصدد ترجيح هذا الاحتمال على احتمال ان يكون حشد كل هذه القوات قبالة حدود لبنان الشمالية مقدمة لعودة عسكرية سورية على غرار عودتين سابقتين الأولى في عام 1976 والثانية بعد اتفاق الطائف الشهير، ان سوريا من خلال هذا الحشد تريد ان تجري الانتخابات البرلمانية المقبلة، وبخاصة في مناطق عكار والشمال، على أنغام قعقعة السلاح وهدير الدبابات وتريد إجبار «الأغلبية الصامتة» من المسيحيين على إعطاء أصواتها الى مرشحي التحالف اللبناني المتحالف مع دمشق والذي هو أكثر حماساً منها لإلحاق هزيمة ساحقة ماحقة بتحالف الرابع عشر من آذار الذي كان قد تشكل بعد استشهاد رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري والذي يُعتبر أنه المقصود بقول الرئيس بشار الأسد ان نتائج هذه الانتخابات «التي ستجري في موعدها» ستلحق هزيمة «بإسرائيل وحلفائها»!! ويشير هؤلاء، وهم يحشدون الأدلة والمعطيات لإثبات ان مهمة القوات السورية التي تم نشرها قبالة الحدود اللبنانية الشمالية هي هذه المهمة الآنفة الذكر، إلا أن الرئيس الأسد كان قد اعتبر ان النجاحات التي كان قد حققها تحالف الرابع عشر من آذار في انتخابات عام 2005 هي نجاحات وهمية وزائلة، وان نائبه فاروق الشرع كان قد قال ان سوريا من خلال حلفائها في لبنان هي الآن أقوى مما كانت عليه خلال وجودها العسكري السابق على الأراضي اللبنانية.

وحقيقة ان قيام سوريا بهذه المناورة العسكرية، وحتى وإن اقتصر انتشار القوات السورية على المناطق التي تنتشر فيها الآن ولم تقم بأي تـوغل لا محـدود ولا غير محدود داخل أراضي لبنان، سيؤثر تأثيراً كبيراً على الانتخابات البرلمانية اللبنانية المقبلة لغير مصلحة تحالف الرابع عشر من آذار، وبخاصة أن هذه الانتخابات ستجري أيضاً في ظل كل هذه القوة التي وصل إليها حزب الله وفي ظل كل ترسانات السلاح وخزائن الأموال التي يملكها هذا الحزب.

استشهد رئيس حزب القوات اللبنانية الدكتور سمير جعجع، الذي هو أحد كبار قادة الرابع عشر من آذار الأساسيين، في مقابلة مع فضائية العربية وهو يتحدث عن مدى احتمال تأثير التحشيد العسكري السوري قبالة حدود لبنان الشمالية على الانتخابات اللبنانية المقبلة، بالقول إن أهل منطقة البقاع تحت وطأة الخوف من عودة القوات السورية الى لبنان باتوا يتجنبون وسائل الإعلام وباتوا يرفضون الإفصاح عن قناعاتهم حتى في لقاءاتهم الضيقة المحصورة.

في كل الأحوال يبقى ان السؤال الذي يحتاج الى إجابة هو: هل ان القيادة السورية لا تزال تفكر جدياً بعودة عسكرية الى لبنان وعلى غرار ما كان عليه الوضع قبل صدور قرار مجلس الأمن رقم 1559..؟!

إن المؤكد ان مواقف سوريا السابقة تجاه لبنان لا تزال على ما هي عليه رغم كل ما يقال عن الاتفاق على تبادل العلاقات الدبلوماسية وترسيم الحدود، وهذا يعني ان عودة عسكرية سورية ثالثة الى الأراضي اللبنانية على غرار عودة عام 1976 وعودة نهايات عقد ثمانينيات القرن الماضي وبدايات تسعينياته بعد مؤتمر الطائف الشهير ستبقى قائمة ومتوقعة، وهذا يتوقف على إمكانية تحول أوضاع لبنان الداخلية المزعزعة وغير المستقرة والتي لا تسر صديقاً ولا تغيظ عدواً الى فوضى عارمة على غرار ما كان عليه الوضع في سنوات منتصف سبعينيات القرن الماضي.. والحقيقة ان كل الشواهد وكل الحيثيات تشير الى ان الأمور ذاهبة في هذا الاتجاه وبخطى سريعة.