الرأسمالية في مستشفى الأفكار المجنونة

TT

بسبب تفجر الأزمة المالية الخانقة في الولايات المتحدة وتسربها إلى الأسواق الأوربية، وذلك بحكم قيادية السوق الأمريكية، أصبحت الرأسمالية كنظام اجتماعي واقتصادي تُطلق فيه حرية الفرد لتحقيق أكبر ربح ممكن، محل نقد وسخط سياسيين وفكريين.

وقد جاء هذا الانقلاب على مزايا الرأسمالية مواتيا لحدة الأزمة المالية التي جعلت العالم يتذكر مجبورا أزمة 1929 وانعكاساتها السلبية على الاقتصاد العالمي آنذاك، خصوصا أن الأزمة أطلت بالمواطن الأمريكي المنتمي إلى أكبر وأقوى دولة في العالم على مجموعة من الأزمات الموجعة والتي تجاوزت مسألة العقارات لتمس عمق الاستهلاك الفردي والبطالة والمديونية والفقر وغير ذلك.

ومن فرط هول الأزمة، فقدت الرأسمالية «قدسيتها» وبريقها، فصارت عنوانا للخيبة إلى درجة أن بعض الساسة الأوروبيين، أقروا بثقة عالية أن الولايات المتحدة لن تعود إلى ما كانت عليه حتى لو تجاوزت أزمتها هذه، وهو ما يعني أن الخريطة الدولية لمراكز القوى بصدد التشكل من جديد، وأن الرأسمالية التي قادت العالم إلى التقدم والعولمة والهيمنة، ها إن الرضوخ المطلق لشروطها سينتج نظاما دوليا يقوم على تعدد الأقطاب. وبلفت النظر عن حالة الانتقاد الشديدة التي وجهتها عديد الحكومات الأوروبية للنظام المالي الأمريكي حيث اعتبرته سبب الأزمة، فإن الحاصل على المستوى الفكري السياسي أشبه ما يكون بنوع من إعادة التفكير في مبادئ الرأسمالية وقيمها.

وهذه المراجعة للفكر الرأسمالي، تتزعمها اليوم أهم وأقوى الدول الأوروبية والقاسم المشترك بين الخطابات السياسية المعلنة، هي الدعوة إلى إعادة الاعتبار لدور الدولة في المجال الاقتصادي والحد من الثقة المفرطة في آليات السوق التي لا تعترف بالقيود والقائمة أساسا على إلغاء أي دور للدولة. وفي هذا السياق بدت تصريحات أوروبية عالية المستوى متفقة على كبح جماح الرأسمالية ومحو البعض من شروطها المجحفة، التي قادت إلى الأزمة الحالية: فوزير المالية الألماني أكد أن الأزمة أظهرت ضرورة تدخل الدولة، لضمان بقاء احترام الأحكام والقيود ضمن النطاق السليم.

أما الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي وهو المفتون، كما هو معروف بالنموذج الأمريكي، فإنه بدأ يراجع بعض حساباته وأفكاره، مبينا أن حالة الاضطراب الاقتصادي التي أثارتها أزمات أسواق المال الأمريكية، وضعت نهاية لاقتصاد السوق الحر. بل انه في خطاب حول السياسة الاقتصادية لبلاده، أشار إلى أن فكرة القوة المطلقة للأسواق ووجوب عدم تقييدها بأية قواعد أو بأي تدخل سياسي، كانت فكرة مجنونة، وفكرة أن الأسواق دائما على حق كانت فكرة مجنونة أيضا.

وأمام هذا الشلال الجارف من النقد، كان من الطبيعي أن تدافع وزيرة الخارجية الأمريكية بقوة، رغم أن التوقيت لا يسمح بمديح الرأسمالية عنوان الولايات المتحدة ورمزها ومعقلها الأكبر قائلة، إن الرأسمالية كنظام اقتصادي لا بديل عنه، بوصفه مسؤولا عن معظم التقدم الحاصل.

وعندما نمعن النظر في مستندات هجاء الرأسمالية ومدحها، لا نكاد نعثر عن تباين صارخ. كما أن وصفها بالفكرة المجنونة لا يعني نسفها، أي أن الحاجة اليوم تتركز في تعديل بعض شروط الرأسمالية وعلى رأسها إلغاء دور الدولة وأيضا لا بد من استبدال شعار الرأسمالية المعروف «دعه يعمل دعه يمر». والتعديل والمراحعة لا يعنيان إطلاقا الاطاحة قلبا وقالبا بفكرة الرأسمالية والزج بها في مستشفى الأفكار المجنونة.

من جهة أخرى لعله من المهم ألا تبالغ النخب العربية في فزعها، فنحن بلدان بدأنا نسير قليلا على درب الخصخصة، سبيلنا للنهوض بوضعية الفرد والتقليص من هيمنة البعد السياسي والحد من طابعه الشمولي في البلدان العربية. فالخصخصة وتأمين الحق في المبادرة الحرة ينميان ملف الحريات، ويرفعان من سقف حرية التعبير.

[email protected]