الأزمة المالية.. ومتغيّرات النظام العالمي

TT

قبل يومين حصل الأستاذ بول كروغمان على جائزة نوبل في الاقتصاد. وقد ركّزت التحليلات في أسباب حصوله على الجائزة على أمرين: أنه سَهَّلَ في كتبه منذ مطلع الثمانينات على الناس العاديين فهمَ العمليات الاقتصادية المعقَّدة، وأنه ثابر على نقد الأفكار والممارسات الاقتصادية للمحافظين والليبراليين الجدُدُ، ومن ضمنها خفض الضرائب على الأغنياء، وخفض الإنفاق العامّ (بما يمسُّ الشأنَ الاجتماعيَّ والطبقات الفقيرة).

والواقع أنّ الأستاذ كروغمان، أستاذ الاقتصاد بجامعة برنستون، ليبراليٌّ معتدل، وتتّسم تحليلاتُهُ بالعمق والوضوح في الوقتِ نفسِه مما يسهِّل بالفعل على غير المتخصّصين من أمثالنا فَهْمَ ما يجري في المركز الرئيسي للتفكير والتصرف الرأسمالي في العالم، أي في الولايات المتحدة. وهو بهذا المعنى يستحقُّ الجائزة. أمّا نقدُهُ للسياسات الاقتصادية للإدارات الجمهورية وبخاصةٍ ريغان وبوش الابن، فهو لم يَعُدْ متفرداً به أو الأكثر خَوضاً فيه. بل إنّ غرينسبان، مدير الاحتياطي الفيدرالي السابق، وولفنسون، رئيس البنك الدولي السابق، كلاهما، يتذمَّرُ منذ سنواتٍ ومن أربعة أمور وليس أمرين: خفض الضرائب، وحفض الإنفاق، وعدم الاهتمام بمكافحة الفقر ومرض الإيدز في أفريقيا، والإنفاق المنقطع النظير على التسلُّح والحروب. ويُضافُ إلى هؤلاء الثلاثة من الكبار: المؤرّخ ورجل الرؤى الاستراتيجية بول كنيدي، واليساري الجذري نعوم تشومسكي، وأخيراً فرنسيس فوكوياما، صاحب النظرية الشهيرة في نهاية التاريخ، والذي رجع قبل أربع سنواتٍ لقواعده الليبرالية السابقة!

أمّا نعوم تشومسكي فما تغيَّر ولا تبدَّل منذ حملاته في شبابه وكهولته على حرب فيتنام. وهو يرى أنّ سياسة الجشع، وسياسة العُدوان، كلتاهما، متأصِّلتان في روح أميركا ولهما مصدران: الدعوى الرسالية البروتستانتية، ودعوى التزام الحرية (لكنْ كما ثبت تُجاه النفس وليس تُجاه الغير!). وتشومسكي أستاذ كبيرٌ للسانيات في الأصل، وله نظرياتٌ جديدةٌ في اللغة والتخاطب. لكنه منذ أواسط الثمانينات ما كتب إلاّ في إدانة سياسات أميركا الخارجية. وهو بالطبع ضد الريغانية والمحافظين الجدد وبوش والعسكر والمجمَّع الصناعي، ويرى أنّ الولايات المتحدة ستُثابرُ على سياساتها العدوانية والاستغلالية، وستغرق في النهاية، وتُخرّب العالم! وبسبب ثبات آراء تشومسكي وتطرفها وراديكاليتها عبر عقود، ما عاد أحدٌ من أهل الـ Main Stream أو التيار الرئيسي يحتجُّ به؛ ومع ذلك؛ فإنّ هذا لم يمنعْ مجلة تايم أخيراً، وبعد حصول الأزمة المالية الهائلة؛ من أن تتخذ عنوان أحد مقالاته عنواناً لها وهو : ثمنُ الجَشَع!

وبول كنيدي نموذجٌ مختلف. إذ تغلبُ عليه رؤى التاريخ العالمي، والنظرات الاستراتيجية الواسعة. وله طبعاً آراء في التاريخ الأميركي، وفي التجربة الاقتصادية والسياسية الأميركية. لكنه أيضاً ومنذ حرب فيتنام، يُقيمُ مقارناتٍ بين الإمبراطوريات القديمة والحديثة. وقد توصَّل إلى استنتاجٍ مؤدَّاه أن الجامع المشترك بين الإمبراطوريات الرومانية والساسانية والبريطانية والفرنسية والهولندية والأسبانية والنمساوية والعثمانية... الخ أنها جميعاً سقطت تحت وطْأة الأعباء والإنفاقات التي فرضها عليها توسُّعها. فرغم استغلالها لمستعمراتها؛ فإنّ الإنفاقَ على الجيوش ظلَّ أكبر وأعظَم. وفي النهاية تتحطَّم الإمبراطوريات إمّا من الداخل، لعجزها عن الإنفاق، أو من الخارج للعَجْز عن مواجهة إمبراطوريةٍ فتية. وهو الذي قال إنّ الشيوعيين الروس أخطأوا كثيراً بالحفاظ على الإمبراطورية القيصرية الروسية، وإنّ ذلك سيكلّفهم سقوط دولتهم، بعد أن أطالوا عُمُر الإمبراطورية القديمة بشكلٍ مصطَنع. لكنّ بول كيندي متحيّر في ماذا ينصح الولايات المتحدة؟ هو يرى أنها لا تستطيع البقاءَ عسكرياً بهذا الانتشار أو تتحطم، لكنْ مَنْ سيحمي مصالحها الاستراتيجية على مبعدة آلاف الأميال من أرضها؟ حلف الأطلسي كان اختراعاً عبقرياً لو أنّه كان «فيدرالياً» كلُّ وحدة تملك الأَولوية والقيادة والإنفاق في مجالها الخاصّ، ويتعاونون جميعاً في حالة الحرب. لكنّ المجمَّع العسكري/الصناعي في الولايات المتحدة أراد الاستئثار بكل شيء، وكان كنيدي يتنبأ بأنه بعد الحرب على العراق (1990ـ1991)، لا بد من حربٍ أو حروبٍ من أجل المجمَّع ومن أجل الإمبراطورية، وكلما مضت الولاياتُ المتحدةُ في هذا السبيل، اقترب مصيرُها من مصير الإمبراطورية الروسية!

وليس مهماً ما يقوله فوكوياما الآن من الناحية الاقتصادية. بل المهمُّ أنه رجع عن البناء الأيديولوجي الضخم الذي شيَّدهُ على أنقاض الاتحاد السوفياتي، وسمّاه "نهاية التاريخ" ونسبه لهيغل. ونهاية التاريخ أو تمامُهُ أو كمالُهُ أو ذروتُه يعني الفوز الساحق للحريات والديموقراطية بعد زوال الشمولية الشيوعية، وبالتالي فهو يقول عملياً بالأَوحدية الأميركية قائدة النظام العالمي الحُرّ والديموقراطي. لكنّ الأَوحدية فشلت في العراق، وتُعاني من مشكلاتٍ ضخمة في أفغانستان، وها هي تكادُ تسقطُ في قاع الإفلاس جارّةً معها العالَم بأسْره! والذي يفعلُهُ فوكوياما منذ ثلاث أو أربع سنوات هو النعْي على المحافظين الجدد وأخطائهم السياسية، دون أن يتذكَّرَ بحرْفٍ واحدةٍ نظريته العصماء الشاسعة الآفاق، والتي برَّرت التعملُق الأميركيَّ أكثر مما برَّرهُ المحافظون الجدد!

فيما عدا تشومسكي إذن، لا يقول أحدٌ من الليبراليين أو اليساريين الكبار بسقوط النظام الرأسمالي. الأشدُّ نقداً يقولون إنّ الذي سقط هو الاقتصاد المالي أو تجارة المال بالمال أو الورق بالوهم. وجوهرُ ما يطلبونه هو العودةُ إلى رقابة الدولة على السوق، وسياسات الضرائب التصاعدية، وسياسات مكافحة الفقر، أي أنهم يريدون العودة لدور الدولة الكبير والمُوازن. لكنّ هناك آخرين يفكّرون بآثار الأزمة على زعامة الولايات المتحدة في العالَم. إذ هم يلاحظون أنّ الكتل الكبرى مثل أوروبا والدول الآسيوية الضخمة، ودول الخليج العربي، وروسيا، قامت في هذه الأزمة بدورين بناءَين: من جهة ضخّت آلاف مليارات الدولار التي تملكُها في الأسواق العطشى، ومن جهةٍ أُخرى دعمت بنوكَها هي وأَوقفتْها على قدميها، لكي لا تنهار ويفقد مئاتُ الملايين ودائعهُم! وهذه الكُتَل لن تقبل بعد اليوم أَوحديةً أميركيةً لا في الاقتصاد، ولا في السياسة؛ لأنها ما عادت تستطيع تحمُّل أعباء الأوحدية والصلبطة البوشية وغير البوشية. ثم إنّ الثقل الاقتصادي صارت له كفتان: الكفة الصناعية والتكنولوجية، وكفّة الثروات الطبيعية مثل البترول والذهَب والفضّة. أما الكفةُ الأولى فتتقدم فيها إلى جانب الولايات المتحدة وأوروبا كلٌّ من الصين والهند واليابان وروسيا. وأمّا الكفة الثانية فتتقدمُ فيها روسيا والسعودية والبرازيل وإيران والإمارات وقطر والكويت. ولذا فالمنتظر الآن عشية اجتماع الدول السبع أو الثماني أن تُطرحَ المسائلُ بوضوحٍ أكبر بكثير من السابق، والمنتظر أن تتجدد المطالبةُ بالعودة إلى «جولات الدوحة» لمنظمة التجارة العالمية، والمنتظر أن تتجدد المطالبة بتوسيع مجلس الأمن.

وقد فاجأت الأزمةُ حتّى صانعي القرار في الولايات المتحدة، والذين كانوا هم أنفسهم منغمسين بالمضاربة في السوق العقارية والمالية! كما أنها فاجأتْهم على عتبة الانتخابات الرئاسية الأميركية، وقد ينجُمُ عن ذلك تقرير مصير الانتخابات بفوز خصوم المحافظين، أي فوز أُوباما. والمأزقُ حاصلٌ في الحالتين. فإذا جاء ماكين فالأرجح أن تبقى الالتزاماتُ البوشية تُجاه المجمع العسكري/ الصناعي، والأرجح أن يستمرّ الإنفاقُ الكبيرُ على العسكر والغزوات. أما إذا جاء أوباما؛ فإنّ ذلك سوف يُعتبر تغييراً كبيراً وإيجابياً بالداخل الأميركي. فالرجل أسود ومن أصول إسلامية. وسيكون بالفعل إلى جانب الفقراء والمهمَّشين دونما ارتباطٍ بأيديولوجيات شعبوانية! أمّا في الخارج فالرجل يدعو لانسحابٍ تدريجيٍ من كلّ مكانٍ؛ لكن بسرعة قياسية. والسؤال المطروح: مَنْ سيحفظ أمن مصالح الولايات المتحدة، وأمن الموارد الطبيعية والصناعية المتدفقة على أميركا وأوروبا من الشرق الأوسط وشرق آسيا. وهكذا فماكين سيكون متابعةً خافتةً وغير ناجحةٍ لبوش، وسيزداد العنف في العالَم والعدوانية ضد الولايات المتحدة؛ بينما سينكفئ أوباما، فيترتب على ذلك انهيارٌ نظامٍ كاملٍ للسيطرة، وانتشار أكبر للفوضى.

أما السياسات الوسطية التي تُقْنِعُ الداخل الأميركي، وتُقْنِعُ العالَم الخارجي في الوقت نفسِه، فتحتاج إلى قادةٍ كبارٍ مؤمنين بالتوازن والسلام والأمن والعدالة في العالم، وملتزمين بالعمل على إنفاذ كل هذه المسائل. وما برز منهم أحدٌ بعد، لا في أوروبا، ولا في أميركا، فهل تظهر ثُنائيةٌ أو ثُلاثيةٌ أوروبيةٌ/ آسيوية، فتقود العالَم في هذه المرحلة الخطِرة؟! هذا هو الأقربُ للمنطق، لكنَّ الواقع لا يتجهُ صَوبه. والله أعلم.